الحبيب الأسود يكتب:
بقاء الدبيبة في الحكم مقابل النفوذ التركي في ليبيا
من يعرف المهندس عبدالحميد الدبيبة عن قرب، يعلم أنه لم يأت إلى السلطة عن طريق الصدفة وإنما كان يعد نفسه لها منذ سنوات، حتى أنه كان يردد على مسامع أصدقائه ما معناه أنه سائر في اتجاه منصة الحكم، وأن لا شيء سيمنعه من ذلك، ومن الطبيعي ألّا يكون من السهل التخلي عن كرسي السلطة بعد الوصول إليه. فالدبيبة ليس مجرد شخص من بين شخوص المشهد، أو مسؤول سياسي دفع به ظرف ما إلى رئاسة الحكومة، وإنما هو عنوان لحالة فئوية وطبقية ولمشروع مالي واقتصادي واجتماعي وممثّل لجماعة تعرف ماذا تريد وكيف تحقق تطلعاتها ولاسيما من حيث السيطرة والنفوذ.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال تشبيه الدبيبة بأي شخصية تولت الحكم منذ 2011، فالرجل ليس مستعدا للتخلي عن الحكم مهما كان الثمن، ولا للتداول السلمي على السلطة، وهو فقط يطمح إلى المزيد من تأزيم الأوضاع بما يدفع نحو المزيد من تأجيل الانتخابات، أو في أقصى الحالات إلى تنظيمها وفق إرادته وخطة فريقه الإداري والمالي والسياسي والميليشياوي والتي تتمثل في الفوز بالنتائج بالاعتماد على كل الآليات والإمكانيات المتاحة من الوعود الشعبوية واللعب بعواطف البسطاء من أبناء الشعب المظلوم إلى التلويح بالحرب والتقسيم، وصولا إلى الرقص على حبال التوازنات الداخلية والإقليمية والدولية بشكل قد يبدو للبعض فوضويا أو غير ذي جدوى ولكنه في الواقع يعبّر عن منتهى الانتهازية السياسية التي سيكون لها أثرها على المرحلة القادمة في حياة ليبيا والليبيين.
تركيا تدرك أن الدبيبة لا يمتلك شرعية كافية للتوقيع على اتفاقيات مهمة، ولكنها ترى أن تلك التوقيعات يمكن أن تكون ورقة ضغط قابلة للتفاوض في أي مرحلة قادمة
استطاع الدبيبة أن يدفع نحو إفشال خطة تنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في ديسمبر الماضي، وأن يتجاوز عقبة نهاية شرعية حكومته في يونيو، وأن يترك حكومة فتحي باشاغا المنبثقة عن مجلس النواب في التسلل، وأن يوهم العواصم الغربية بأن باشاغا قريب من الروس وهو متحالف مع المشير خليفة خفتر المحسوب بدوره على موسكو والمدعوم بقوات “فاغنر” وبالتالي فإن وصوله إلى الحكم في طرابلس قد يضر بمصالح واشنطن وحلفائها في ليبيا والحوض الجنوبي للمتوسط، وعندما حاول باشاغا فرض شرعيته البرلمانية من داخل العاصمة طرابلس في مايو الماضي، كان الدبيبة ينتظره بمخطط للحرب الأهلية، وفي أغسطس ومع تكرار المحاولة، شهدت طرابلس مواجهات دموية بين ميليشيات تابعة لحكومة الدبيبة وأخرى داعمة لحكومة باشاغا، وكانت النتيجة أن تم دحر القوات الموالية لباشاغا في غرب طرابلس بواسطة الطيران المسيّر التركي.
هناك من يعتقد أن القاهرة وباريس خدمتا مصالح تركيا عندما دعمتا حكومة باشاغا بما جعل منها بعبعا تستفيد منه تركيا في ابتزاز الدبيبة، وهذا الأمر فيه الكثير من الصواب، ولكن الأهم من ذلك أن خضوع الدبيبة للأتراك بات يجد من يسانده في المنطقة العربية، وهو ما أدى إلى خلط الكثير من الأوراق خلال الفترة الماضية، وإلى الدفع بسلطات طرابلس إلى التجرؤ على مصر بشكل غير مسبوق.
لم تكن أنقرة ضد باشاغا ولا ضد مجلس النواب الذي دعت رئيسه عقيلة صالح لزيارتها حيث استقبله رجب طيب أردوغان وكبار المسؤولين الأتراك، ولكنها حتما تجد مصالحها لدى من تثق فيه أكثر أو من تجد لديه استعدادا كاملا لتنفيذ أوامرها وهو المهندس الدبيبة الذي لديه استثمارات على أرضها ولأسرته الموسعة علاقات وطيدة مع حكومتها وأجهزتها، وزياراته إلى أنقرة أو إسطنبول تكاد تكون شهرية أو حتى أسبوعية ولكن أغلبها لا يتم الإعلان عنه، ومن يعتبرون حكومة طرابلس الحالية امتدادا لسلطة الباب العالي لا يجانبون الصواب.
الحقيقة أن من راهنوا على الحكومة المنبثقة عن مجلس النواب خسروا الرهان، وكانت خسارتهم مضاعفة، أولا حيث فشل باشاغا في فرض سلطته والوصول إلى مركز القرار في العاصمة، وثانيا حيث اتجه الدبيبة لتسليم قيادة العاصمة والمنطقة الغربية بالكامل إلى أنقرة، وعرف كيف يلعب على بعض التناقضات الحاصلة في السياق الإقليمي للاستفادة منها، وخاصة في مواجهة القاهرة التي اعتبرها الركن الأضعف في المعادلة السياسية بالمنطقة.
وقع الدبيبة اتفاقيتين أمنية واقتصادية مع وزير الدفاع التركي بناء على اتفاق ديسمبر 2019 الذي أغضب مصر والدول الأوروبية حينها، ثم جاء التوقيع على الاتفاقية التي تنص على رفع كفاءة قدرات الطيران الحربي في ليبيا بالاستعانة بالخبرات التركية، والاتفاقية الثانية التي تتضمن بروتوكولات تنفيذية للاتفاقية الأمنية الموقعة مع حكومة الوفاق الوطني قبل 3 سنوات.
إن اتفاقية رفع كفاءة طيران حكومة الأمر الواقع في طرابلس تعني بالأساس أن الدبيبة يدفع نحو معركة فاصلة يعتبرها أمراء الحرب وقادة الميليشيات والمتشددون العقائديون من الإسلاميين والثوريين الفبرايريين خيارا لا رجعة فيه لوضع اليد على البلاد بكاملها وعلى كل ما فيها من مقدرات وثروات، وهو يخطط لأن يلعب طيران تركيا دورا مهما في تدمير قوات الجيش الوطني بقيادة حفتر كما فعلت مسيّراتها في العام 2020.
ينظر الدبيبة إلى تركيا على أنها القوة الإقليمية الأكبر التي يمكنه الاعتماد عليها في حربه من أجل البقاء والاستمرار في الحكم إلى ما لانهاية، ولاسيما أنه لا يبدو مستعدا للتنازل عن السلطة ولا لترك الغنيمة التي يعرف قيمتها جيدا انطلاقا من جملة مرجعياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وقد ارتبط بتحالفات متينة مع مراكز النفوذ التركي الثقافية والمالية والسياسية في بلاده، وأصبح أحد أبرز المقربين من تيار الإسلام السياسي المتشدد بزعامة الصادق الغرياني، وأحد أهم المتبنين لمواقفه وتحاليله وقراءاته للأحداث، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالولاء للأتراك وللعداء لمحور الاعتدال العربي.
وترى تركيا في الدبيبة خير منفذ لسياساتها ومحقق لطموحاته في ليبيا، وهي تعرف جيدا ميوله، ولا ترى مانعا من مساعدته على البقاء في الحكم، وعلى تحصين حكومته في طرابلس، ولكنها غير مستعدة لخوض حرب مع قوات حفتر في المناطق الخاضعة لنفوذه، ولا للتحرش بمصر بتجاوز الخط الأحمر الذي لا يزال ساري المفعول منذ أن حدده عبدالفتاح السيسي في يونيو 2020.
تدرك تركيا أن الدبيبة لا يمتلك شرعية كافية للتوقيع على اتفاقيات مهمة، ولكنها ترى أن تلك التوقيعات يمكن أن تكون ورقة ضغط قابلة للتفاوض في أي مرحلة قادمة بما يحافظ على مصالحها في ليبيا، وبالتالي فإنها تعرف كيف تستغل عشقه للكرسي وتطلعه الدائم للبقاء في صدارة المشهد، وكيف تبتزه وتجعله ينفذ طلباتها إلى أن يأتي اليوم الذي قد نرى فيه المشير حفتر وهو ينزل في ضيافة أردوغان، كما حدث مع عقيلة صالح الذي دخل هو الآخر على خط المصالحات الإقليمية وزار أنقرة والدوحة كاسرا الحاجز النفسي الذي كان يضعه في خانة العداء السياسي والعقائدي لحكومتي قطر وتركيا.