عبدالكريم مباتة يكتب لـ(اليوم الثامن):

محمود محمد طه.. المعدوم الذي أُلغي حكم إعدامه

المفكر والسياسي  السوداني  المغدور به محمود محمد طه، الذي صدرت في حقه فتاوى عديدة، حكمت بتكفيره وارتداده عن الإسلام، أطلقها أعداءه السياسيين وخصومه من رجال الدين،   تمت على أساسها محاكمته مرتين،  نجى من الأولى وتم الحكم عليه بالإعدام في الثانية، نفذ ذلك الديكتاتور جعفر النميري سنة 1985.
بالرغم من اختلافه وخروجه عن المعروف في الفقه والمألوف عند المسلمين، إلا أن دعوته كانت بالأساس سياسية وأن محاكمته و  تنفيذ الإعدام عليه بتلك السرعة واللهفة  كان بطعم السياسة العفنة  والفكر الديكتاتوري الظالم.
كان محمود محمد طه من مؤسسي الحزب الجمهوري السوداني، وظهر خصما شديدا للإخوان والنظام الحاكم والإحتلال الإنجليزي المصري، بل كان يعبر عن تميزه الشديد عن كل  المكونات السياسية في السودان فكرا وتأسيسا.
كان الحزب الجمهوري يشبه كثيرا الأحزاب الدينية، وبذلك لم يكن يشذ عن قاعدة ذلك العصر في تكوين الأحزاب السياسية، فالمقاربة الإسلامية للأفكار السياسية والثورية العالمية كانت أمرا طبيعيا، فكل ثقافة تحاول دائما البحث عن نقطة ارتكاز لها في هويتها لتنطلق في فهم ما يستجد من فكر على المسرح الإنساني، كان الحزب الجمهوري  بمثابة مدرسة دينية  والمدرس فيها هو محمود محمد طه.
لا تعرف الشعوب العربية الحديثة عن محمود طه شيئا لأن تاريخه  تم طمسه وكل أفكاره تم التعتيم عليها، والسبب واضح وهو الخوف منها، بحجة أنها خارجة عن الدين كما يقول من حكم عليه،  خصوصا بعد اتهامه بالردة واعدامه، وهذا من عيوب العقل العربي، إذ أنه يلغي كل اختلاف، مخالفا بذلك ومنافيا  لأسس التطور والنقد المجتمعي، إذ أن العقل الحقيقي لا يلغي حتى الأفكار الخاطئة إنما تبقى مادة للنقد والتصويب وأساسا لإظهار الحق بنقد الخطأ، وهذا المنهج القرآني قد تخلى عنه المسلمون وأصبح مبدأ الإقصاء هو الغالب على مجتمعاتهم الجامدة.
كان محمود طه يؤمن بأن الإسلام الحقيقي هو الإسلام المكي الذي يعتبر أصل الدين والمليء بآيات الرحمة والتسامح، في حين أن الإسلام المدني هو فرع في الدين نزل على الرسول ليحكم من خلاله في الزمن الذي كان يعيش فيه. وقد نشر فكره هذا وفصله في أشهر كتبه على الإطلاق وهو كتاب "الرسالة الثانية" ويمكن معرفة الإشكالية المطروحة فيه ورأيه الخالص فيها، بالذهاب مباشرة للفصل الخامس حيث نقرأ عناوين مثل:
- الجهاد ليس أصلاً في الإسلام
- الرق ليس أصلاً في الإسلام
- الرأسمالية ليست أصلاً في الإسلام
- عدم المساواة بين الرجال والنساء ليس أصلاً في الإسلام
- تعدّد الزوجات ليس أصلاً في الإسلام
-المجتمع المنعزل رجاله عن نسائه ليس أصلاً في الإسلام
قد تبدو العناوين صادمة في ظاهرها، وقد توحي برؤية خارجة عن الدين، لكن ديدن  الكُتّاب الذين يواجهون تحجر الفكر في مجتمعاتهم، دائما ما يلجأون إلى استراتيجية الصدمة في طرح افكارهم، لكن الباحث في  تفاصيل تلك الأفكار  قد يجد فيها تقاربا موثقا حتى في كتب السنة المعتمدة والمراجع المعتبرة، فمحمود.طه انطلق من أساس يعلمه الجميع وهو تقسيم القرآن بين مكي ومدني وتفصيل الفقهاء في بحث التمايز بينها، فالكاتب لم يخترع شيئا عندما قال أن القرآن المكي هو قرآن عقيدة وتعايش وتسامح، وان القرآن المدني هو قرآن تنظيم ومعاملات، فقوله هذا هو عين ما يقوله كل المسلمين، إنما ما جعله يتميز عن الفكر السائد هو دعوته لتأسيس فقه جديد على أساس هذا التمييز،
طرح محمود طه فكرة أن المسلم وجب أن يعتمد القرآن المكي في تأسيس عقيدته وتنظيم تعاملاته وأسس إيمانه ، أما القرآن المدني في أجزائه التعاملية هو قرآن موجه لمسلمي ذلك العصر، فهو قرآن محكوم بالظرفية، أو بمعنى آخر هو يخضع للقراءة التاريخانية، بحيث رفض رفضا قاطعا  فكرة الناسخ والمنسوخ،  والتي تنص على أن بعض الآيات المدنية نسخت ما يقابلها من الآيات المكية بمعنى عطلتها، وفَصَل ومايز  كذلك بين  أحكام الرسالة وأحكام النبوة، وسنة العبادة وسنة العادة، و تفاصيل أخرى تعتبر أصيلة في الدين  قد تجعل من أفكار هذا الرجل جزءا من المشهد الفكري الإسلامي حتى وإن كانت في نهاياتها تعتبر خطأ في نظر الفقه السائد.
نادى محمود محمد طه بالمساواة بين الرجل والمرأة في كل شيء حتى في الميراث ، و قدم رأيه المتميز  في الزكاة والجهاد بأن ضرب الإصطلاح ليحرر المصطلح من ربقة الفقه، فالقتال قتال والجهاد معاني قيمية. وأكد أن الصلاة وقتية وليست دائمة للأبد، إذ هي مجرد أداة حتى يصل المؤمن لدرجة من الإيمان تصبح القيم الإيمانية أولى من الشعائر، وهذا يبقى رأيا خاطئا لأن تعطيل الشعائر لا يجد في الدين أساسا ولا حجة، بل الشعائر من الملة والملة متكررة لا تتغير عبر الزمن. وعند جزء من الصوفية راي يقارب ما ذهب إليه محمود طه ولكن لا يشبهه.
كان محمود طه يؤمن بالجمهورية وقيم التعايش وبناء الدولة الأمة والعقد الإجتماعي وحرية الإعتقاد وكان يؤمن بأن الإسلام كمال للقيم الإنسانية وليس شعائر فقط.
قُدم محمود محمد طه إلى المحاكمة وعمره 76 سنة،  وقد وقف بكل شجاعة ولم يضعف وهو يعلم أن مصيره الإعدام، خصوصا وأن النميري الديكتاتور  الذي كان يحكم السودان منذ 1969 كان يرى في اعدام محمود طه نوعا من الرِّشوة العاطفية لشعب متعطش لتطبيق الشريعة، وتقريب لحليفه السياسي المتمثل في الإخوان المسلمين.
وقف محمود طه أمام محكمة صورية لم يعترف بها أصلا فقد كان يراها أداة في يد الديكتاتور لقمع الشعب والرأي والفكرة، وليست أداة لتطبيق العدالة الربانية، ووجه كلامه لها قائلا: "...ومن أجل ذلك، فإني غير مستعد للتعاون مع أي محكمة تنكّرت لحرمة القضاء المستقل ورضيت أن تكون أداة من أدوات إذلال الشعب وإهانة الفكر الحر والتنكيل بالمعارضين السياسيين».
نزل الحكم بسرعة كما كان متوقعا، بالإعدام شنقا حتى الموت وتبعته كل التوابع الفقهية بعدم الصلاة عليه وعدم دفنه في مقابر المسلمين ومصادرة أمواله واعتبارها فيئا للمسلمين،  ونفذ الحكم بعد أيام بمصادقة النميري، ولكن من سخريات القدر، أنه بعد أربعة أشهر من إعدام محمود طه تم الإنقلاب على النميري من طرف وزيره للدفاع سوار الذهب، وبعد.سنة تم إلغاء حكم الإعدام على محمود طه والتراجع عنه قانونا، وبذلك تم ارجاع الحق لأصحابه واعتبار إعدام مواطن لأجل فكرة يعبر عنها بلسانه، مهزلة قضائية وضربا لحقوق المواطن الطبيعية.
إن  المشهد الفكري العربي الإسلامي، عرف تنوعا لا حصر له منذ نزول الوحي وبدء المسلمين في التفكير وتحليل الرسالة،  ولكن هناك طرف في مجتمعنا يريد أن يسوق لخرافة أن المجتمع الإسلامي من الشرق الأوسط إلى شمال إفريقيا مجتمع متشابه متناسخ،  أو عبارة عن مجتمع مستنسخين لا تنوع فيه، وهذا الأمر شدّد على العقل العربي و اضطره إلى  الدوران  والإلتفاف حول أزماته العضوية  بدل مواجهتها، ولا يزال كذلك  ولكنه سيجدها أمامه طال الزمن أو قصُر وسيجدها متفاقمة متعفنة لدرجة أنه سيضطر للبتر والحرق والتشريح والقطع بدل العلاج والتطوير.