عبدالكريم مباتة يكتب لـ(اليوم الثامن):

الفرنسية في الجزائر ظل نخبوي وفزاعة شعبوية

في الجزائر، هناك تيار سوسيوسياسي يدعي بأن الفرنسية كلغة وثقافة وحضارة سيطرت على الجزائر، و لا زالت تسيطر على العقل الجزائري  ولسانه، وقد وجدت أفكار هذا التيار قبولا واسعا عجيبا عند شريحة عريضة من الشباب الجزائري على اختلاف مستوياتهم الثقافية وشرائحهم المجتمعية. حتى تطور العداء التاريخي لفرنسا إلى خروج عن المنطق واستعداء للحضارة الإنسانية نفسها.
ولكن الناظر والمراقب، يتساءل أين يجد تحقيق هذا الإدعاء على أرض الواقع، فهو لن يجد في الشارع الجزائري  حوارات كاملة  بالفرنسية بين المواطنين كي يدعي أنها مسيطرة على اللسان الجزائري، أما مناظرات  النخبة سواء للضرورة أو الظرفية لا يمكن وصفها بأنها خضوع لسيطرة لسان ما ولا يمكن تعميمها على المجتمع،
عندما يدعي أحدهم بأن لسانا ما يسيطر على عقل مجتمع فيجب عليه أولا أن يثبت ذلك بالدليل العلمي متخذا  الواقع العميق لذلك المجتمع كموضوع لدراسته، ربما يتكلم المتكلم عن سيطرة اللسان الفرنسي في دول إفريقية كالسنغال وبوركينافاسو، لكنه لن يستطيع ادعاء ذلك على الجزائر، لأنه وببساطة لو نزل لسوق من أسواق الجزائر لوجد جهلا فظيعا باللغة الفرنسية بينما المواطن البسيط في السنغال يتواصل بالفرنسية في أغلب أموره الحياتية.
أما ادعاء أن الفكر الفرنسي يسيطر على العقل الجزائري فهنا المصيبة التي تحتاج لدراسات شاملة لفك الإشتباك والإشتباه فيها، بعيدا عن تخريصات  أغلبها ذات منابع إيديولوجية مبنية على  مشاهدات سطحية لشكليات إدارية و تمظهرات نخبوية زائلة  لا ظواهر اجتماعية مترسخة، فبقاء اللغة الفرنسية كلغة إدارية ثانية لا يخرج عن ضرورة ظرفية تعود لحاجة مستعمليها لها، وليس تأسيسا قانونيا ولا رغبة سياسية، والدليل على ذلك هو تراجع الفرنسية في كثير من المجالات في المجتمع الجزائري واكتساح العربية لتلك المجالات، كالتعليم و العدالة مثلا، حتى أصبحت الأغلبية الساحقة من العاملين في هذين القطاعين معربة بشكل عميق.
وفوق ذي المصيبة مصيبتان أخريتان، فادعاء أن لغة ما تسيطر على لسان شخص، يجب أن تدعمه دلائل من الثقافة، فالفرونكوفوني يجب أن يتكلم من بعد ثقافي ينبع من سيطرة اللغة الفرنسية على لسانه، والمجتمع أيضا وجب أن يتمثل تلك الثقافة في منتوجه الحضاري، ويبقى السؤال المطروح على هؤلاء هو : أين هذا التَمثُّل في المجتمع الجزائري، أين روح الثقافة الفرنسية التي أثرت في العالم كله من العقل الجزائري الذي يصارع في عمق وجوده كل منتوج حضاري غربي؟، وفوق ذلك لم يستطع تَمثُّل حتى الجزء المشترك منه داخل مجتمعه.
إن المراقب لمجتمعنا الجزائري، لن يجد تطبيقات لفكر فولتير و لا  روسو ولا دولوز  في هيكلية مجتمعه، ولا تدريسا لشعر  فيكتور هيغو ولا أبولينار ، ولا حتى ثقافة عامة حول مساهمات الفرنسيس في العلوم العالمية، ولن يصادف حوارات مجتمعية حول فلسفة  باسكال و ديكارت و  باشلار  وبودريار وكامو وبرغسون ، ولا تطبيقات معصرنة لفلسفة  مونتسكيو في القانون ولا سياسة ليو ستراوس ولن يجد في المدرسة  تاريخ جاستون ماسبيرو وليفي ستروس ولا حتى حفريات تاريخ  وجنون ميشيل فوكو أو ميشيل سيريس، ولن يصادف ذوقا فنيا يجعل أساسه موسيقى رافل ولا برليوز ولا ساتي ولا سانت ساين ولا لولي ولا مسرح  موليير ولا راسين ولا كورناي ولا ساشا ڨيتري ولا جيرودو ولا رواية فلوبير ولا بالزاك ولا خيال جول فيرن. فأين روح ديكارت في نقاشاته، وأين روح إيميل والتربية في مدرسته.
لا يمكن أبدا ادعاء أن العقل الفرنسي كان حاضرا ومؤثرا في العقل الجزائري، لا إبان الإحتلال ولا بعد الإستقلال، فلا وجود لبنية تحتية تجعل هذا الفكر أو غيره يتجلى في مجتمعنا، فلا مسرح ولا سينما يمكن أن ندعي من خلالهما أن الثقافة الفرنسية مسيطرة، بل العكس هو الحاصل، فأغلب نشاطات الشباب الثقافية أساسها اللغة العربية، من المنتوج الأدبي كالرواية والشعر، إلى التعبير في وسائل التواصل ومواقع الإنترنت، وهذا يعكس تماما التناقضات السوسيولسانية التي يعيشها الجزائري بين لغة عربية رسمية، ولغة بربرية مدسترة حديثا، ولغته الأم الدارجة الجزائرية الأكثر استعمالا والأوسع انتشارا، ولغة فرنسية كموروث تاريخي يتبدد يوما بعد يوم، ولغة انجليزية يرى فيها الجزائري طريقا للتحرر من الفرنسية، تماما كما رأى من كان قبلهم في الفرنسية طريقا للحضارة.
نعم الكل يتكلم عن خرافة  سيطرة الفرنسية على لسان الجزائري، لكنني لم أرى من الثقافة الفرنسية  وعلومها وعقلها اللامع عبر تاريخ الحضارة الغربية شيئا في المجتمع الجزائري، غير منعكسات بافلوف وببغاوات يرددون قشورا، وآخرون خلطوا بغض الإستعمار ببغض منتوجه الحضاري الإنساني، وآخرون يظنون أن ما نحن فيه  من تخلف وتراجع حضاري سببه اللغة  الفرنسية، وآخرون خلطوا المصلحة السياسية بالقيمة الدينية، حتى أصبح الشاب الجزائري اليوم ينخرط في معارك لسانية دونكيشوتية لا معنى لها.
وفوق ذلك يأتي بعض المتكلمين،  محاولين خداع العقل الجزائري بأن ادعوا أن تخلفنا سببه اللغة الفرنسية، وأن استبدالها بالإنجليزية سيحولنا بين لحظة وأخرى إلى سنغافورة العرب، دون أن يطرحوا الأمر حتى على نقاش أكاديمي و شعبي وإعلامي، بل كل المطروح هو توجيه  إيديولوجي وخداع  شعبوي، وإغراق للسمكة، محاولين إشغال الجزائري عن النظر إلى جيرانه المشارقة و  فهم أزماتهم و اكتشاف واقعهم و تخبطهم  في نفس الوحل الحضاري الذي نتخبط فيه، مع أنهم يستعملون الإنجليزية على نطاق واسع في مجتمعاتهم،  لكنها لم تنفعهم حتى في بناء دول حقيقية مبنية على التنوع والحرية والديمقراطية والعدالة، ويحاول بعض المخادعين أن يصوروا لنا تلك العمارات والطرق وناطحات السحاب ومظاهر الغنى في دول الخليج على أنها مظاهر حضارية ناتجة عن تبني الإنجليزية، ويتحاشون تسميتها  بمسمياتها الحقيقية التي لا تبتعد عن مصطلحات الإنفتاح الإقتصادي والإستسلام التجاري للغرب الأنجلوساكسوني، وإلا فما هي مساهمة المشارقة في دفع الأمة العربية لدخول الحضارة، اللهم إلا تصدير التزمت الديني والتخلف العقلي. ونسينا أن أول عصر التنوير العربي الذي انطلق من مصر كان منبعه فرنسا وليست إنجلترا، وأن أول مطابع العرب التي كانت في لبنان كان أصلها فرنسيا.
هذا المقال ليس دفاعا عن فرنسا ولا الفرنسية كما أن إعجابنا بالفرنسية ليس عبادة للفرنسة، كذلك تشجيعنا لدعم الإنجليزية في الجزائر  ليس إعجابا بانجلترا ولا عبادة للأمركة، فأنا كجزائري موقفي من فرنسا يشبه تماما موقفي من باقي الغرب، فإنجلترا ليست ملاكا ولا أقل قسوة من فرنسا، ولكنه تذكير للعقل الجزائري بأن أزمته أعمق من مجرد لغة بدأت تندثر فعليا ليس لبغضنا لها، بل لضعفنا فيها وفشلنا في تدريسها، وإلا كيف تفسر حقيقة أن الجزائري يبدأ بدراسة الفرنسية في سن التاسعة، ثم يصل الثامنة عشرة ولا يستطيع تكوين جملة فرنسية واحدة صحيحة. بل لا يستطيع التكلم لا بالعربية التي يدرسها من سن السادسة ويسمعها في المدرسة والمسجد والتلفزيون ويا ليته كره الفرنسية وتشدق بالإنجليزية التي يتعلمها منذ سن الثانية عشرة.
فشل الجزائريون في كل اللغات ولم يعد لدينا إلا حقد لساني مثير للإشمئزاز،  ومدرسة تخرج الصم البكم من أصحاب الألسنة العرجاء، ليطرح صاحب العقل السؤال التالي:  كيف يفكر وينتج من لا يملك لسانا؟، بل كيف يفهم الحضارات الأخرى ويحاورها ويهضم أفكارها ثم يحللها ويعرف الصالح من الطالح فيها إن لم يسيطر هو على لسانها؟.
لكننا اليوم نغذي في مجتمعنا خطابات إيديولوجية نظنها جوهرا للوطنية، وبدل أن نواجه واقعنا، ونعترف بهزيمتنا الحضارية دون خجل ولا إحساس بالدونية،  ونبحث عن حلول لها، فإننا اليوم نعيد خلق شروط هزيمتنا من جديد، ونحاول جعلها في مظهر النصر، حتى نخدع أنفسنا وأبناءنا.
هذه الخطابات الغاضبة التي تعمينا  حتى عن رؤية أعدائنا على حقيقتهم  وطبيعتهم، وأفقدتنا الرغبة في دراستهم كما يدرسوننا عبر لغاتنا وثقافاتنا، وكأننا لم نعد نريد إلا التخلص من الحياة ثم الموت والإندثار على أعتاب الحضارة.
إن خرافة سيطرة الفرنسية على لسان الجزائري، وأنها كانت السبب في تخلفنا وفقرنا، هو من قبيل تشتيت الإنتباه، وصرف العقل الجزائري عن أزماته الجوهرية والعضوية التي يرزح تحتها، وبدل أن نعترف بأن مصيبتنا في عقلنا ولساننا نحن، جعلناها في لسان فرنسي ثم افترضنا أن الحل في لسان إنجليزي.