علي الصراف يكتب:
جيل القادة الجدد يضع نهاية أخرى للحرب الباردة
كأن الولايات المتحدة لا ترى شيئا عندما تنظر إلى دول المنطقة. لا ترى ما تغير فيها من المقاربات حيال المصالح الخاصة وحيال العلاقات الدولية. كما لا ترى أن فيها جيلا جديدا من القادة، ينظر إلى ميزانه التجاري، ولم يعد يأبه بأي انحيازات مسبقة.
ولكن الأمر جزء من عمى أميركي أعم.
وضع الرئيسان جو بايدن وشي جينبينغ، خلال اجتماعهما في بالي، خطوطا عريضة أولية لوقف التداعيات التي تؤدي إلى حرب باردة جديدة بين أعظم قوتين اقتصاديتين في العالم. مصالحهما مع بعضهما أثبتت أنها أكبر من أن يغامرا بتعريضها إلى التهديد.
لماذا يتوجب إذن أن تعرّض دول المنطقة مصالحها الخاصة للتهديد في نزاعات المصالح بين القوى العظمى؟ وما الذي يجبرها على أن تكون طرفا في حريق لا ناقة لها فيه ولا جمل.
روسيا تريد أن تحتل أراضي دولة أخرى. لديها طموحات إمبريالية. تريد أن تعيد بناء النظام الدولي على مقاس النزعة القومية الروسية المتطرفة.
لا تستطيع القول حيال هذه النزعة “ما شأننا نحن؟”، لأن الأذى الذي يلحق بالأمن والاستقرار والتوازنات الدولية سرعان ما سوف يبدو كبيرا، مما يتطلب موقفا، ليس ضد النزاعات القومية المتطرفة الروسية وحدها، وإنما ضد كل نزاعات توسعية، أو تطلعات هيمنة، أو أعمال تهديد أو زعزعة للاستقرار والأمن. كلها مع بعض.
ولكن تستطيع أن تسأل في الوقت نفسه: أين الناقة، وأين الجمل، بين متصارعين إنما يتنازعون على مصالحهم، ويريدون من الآخرين أن يكونوا حطبا لما يوقدونه من نيران؟
دول المنطقة تحسن صنعا لنفسها، لو أنها امتنعت عن التورط في تلك المنازعات، على الأقل لكي لا تعود فتلدغ من الجحر نفسه مرتين.
لقد أضاعت دول المنطقة نحو أربعين عاما من الانخراط في الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. بلداننا نفسها انقسمت إلى صفين يتهم أحدهما الآخر بالولاء والتبعية، تارة لموسكو، وأخرى لواشنطن. وباستثناء الجزائر التي ما تزال تعيش في أجواء تلك الحرب الباردة، مع نفسها على الأقل، فقد تحررت كل الدول العربية الأخرى من الأوهام التي كانت تفرضها تلك الحرب.
وهناك جيل جديد من القادة يضع جدول أعمال مختلفا. ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والرئيس الإماراتي محمد بن زايد آل نهيان، والملك المغربي محمد السادس، والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وغيرهم من جيل القادة الذين يتلفتون إلى شؤون التنمية الاقتصادية، كفّوا بلادهم عن التورط في انحيازات دولية مُكلفة.
هناك أطر للتعاون والشراكة. وهي تظل محترمة، طالما بقيت تؤدي الخدمة الإستراتيجية المنشودة منها. لا فرق بين صيني ولا أميركي ولا روسي. لسان الحال يكاد يقول “هات أفضل ما عندك، وخذ أفضل ما يمكن”. من دون اشتراطات مسبقة، ولا اعتبارات سياسية خارجة عن الموضوع، لأن المصالح مصالح، وهي لا تتحمل زوائد قد تنقلب ضررا.
الصين لم تتصرف كعدو لدول المنطقة. تريد أن تتوسع اقتصاديا بأدوات ناعمة. وتوسعها نفسه مفيد من ناحية سعة المصالح الناشئة. وهي زبون تجاري موثوق، بائعا كانت أو شاريا. ولا شيء يبرر على الإطلاق الخوض في حرب تجارية معها، لأنها ستكون رصاصة في القدم.
الشيء نفسه ينطبق على روسيا. هذا البلد ظهرت لديه أطماع طارئة. ارتكب أخطاء إستراتيجية على أساسها، وها هو يدفع ثمنها الباهظ. سوى أن إدانة الخطيئة شيء، وتدمير المصالح الذاتية شيء آخر، والدخول كطرف في الحرب شيء ثالث.
يمكن للرأي الفردي أن يكون ما يكون. وبينما يستطيع أي كاتب أن يزعم أنه يملك رأيا، ويبني مواقفه على الأسس التي يهوى، ولكن لا يجب أن يكون صادما لأحد، أن جيل القادة الجدد لا رأي لهم على غرار ما لأي “صاحب رأي”. بمعنى، أن مواقفهم وسياساتهم تتعلق بحسابات كلية لا ينظر فيها إلا مَنْ ينظر في جداول الحقائق الأخرى. وهي حقائق رقمية بالدرجة الأولى تحسب اختلالات التجارة، بمقدار ما تحسب احتياطات القمح في الصوامع. رأي، ولكنه قائم على أسس مختلفة.
هذا الجيل، لم يعد مأخوذا بالأيديولوجيات. إنه مأخوذ بالأرقام؛ بما يمكن للمال أن يفعل؛ بما تعنيه التنمية البشرية؛ بما تعنيه المخاوف من نقص الموارد؛ بما يحدث من تغيرات اقتصادية؛ بالتسونامي الذي يواجه مصادر الطاقة؛ بالتكنولوجيا التي يتعين اللحاق بها.
إذا فهمت كل هذا، سيكون بوسعك أن تفهم لماذا تدافع الإمارات، بوصفها أول من شق الطريق، عن إستراتيجية الابتعاد عن المنازعات الإقليمية والدولية.
فكرة “إما معنا، وإما ضدنا” التي تحاول الولايات المتحدة العودة إلى إملائها، لم يعد لها مكان في حسابات جيل القادة الجدد. نحن مع أنفسنا فقط، لا مع ولا ضد أي طرف دولي آخر. فإذا كانت هناك نزاعات، فمن الخير تسويتها سلما، أو إرجاؤها سلما، ريثما تنضح الظروف لحلول عاقلة.
نهاية الحرب الباردة المرتقبة بين الصين والولايات المتحدة تؤكد جدوى هذه المقاربة. وهي تؤكد أيضا، أنه ليس من مصلحة الولايات المتحدة، ولا الصين ولا روسيا، أن تسعى لجرّ دول العالم الأخرى إلى اصطفافات إستراتيجية متعادية.
الاقتصاد الدولي لم يعد يبرر اصطفافات من هذا النوع أصلا. لقد كان الأمر ممكنا على امتداد الأربعين عاما التي تلت الحرب العالمية الثانية. لقد كان هناك جدار بين اقتصادين مختلفين، كلاهما مغلق على نفسه، ويحاول أن يبني عالما خاصا به.
هذا الجدار انهار مع انهيار جدار برلين. وزاده المنعطف التكنولوجي، لصناعة الرقائق والاتصالات والإنترنت، انهيارا.
حاولت الولايات المتحدة أن تبني جدرانا بين الصين وبين بعض دول شرق وجنوب آسيا، أو نصب عوائق بين الصين والاتحاد الأوروبي، ولكنها اكتشفت كم أنها كانت محاولات بائسة، لأنها لم تستطع أن تقيم جدرانا ولا عوائق بينها هي نفسها وبين الصين.
الاقتصاد العالمي متداخل ومفتوح بما لم يعد يسمح بأي جدران، ولا بأي انحيازات، تقيّد المصالح الوطنية بقوالب سياسية مسبقة.
لم يكتشف الرئيس جينبينغ معجزة عندما خاطب الرئيس بايدن بالقول “إن العالم كبير بما يكفي لازدهار بلديهما”. ولكنها بدت معجزة حقيقية، بمقاييس الأفق الضيق الذي تنظر به الولايات المتحدة لمصالحها. على الأقل لأنها تزاحم حتى حلفائها أنفسهم، وتحاول التضييق على مصالحهم في بلدانهم، بينما تترك عالما شاسعا ينتظر استثمارات وفرصا للنمو.
المعونات التي تقدمها واشنطن لشركات صناعة السيارات الكهربائية لكي تنسحب من أوروبا وتفتح مصانعها في الولايات المتحدة، ليست سوى مثال واحد من عشرات الأمثلة، ليس على ضيق الأفق، ولا على ضرره فقط، وإنما على عماه أيضا.
دول المنطقة، تدرك الآن، من واقع التجربة، أن الحروب الباردة لا مكان لها في عالم اليوم، وأن الاصطفافات لم تعد تجدي نفعا، وأن العالم كبير بما يكفي للجميع، وأن ضيق الأفق الأميركي ليس جديرا بالثقة، وإنه هو الذي يجب أن يتغير، ليرى ويفهم ما تغير في هذه المنطقة.