الحبيب الأسود يكتب:
ملاحظات على هامش قمة الفرنكفونية في جربة التونسية
حدث استثنائي تحتضنه جزيرة جربة التونسية هذه الأيام، وهو المؤتمر الثامن عشر للرؤساء ورؤساء الحكومات في الدول التي تشترك في استخدام اللغة الفرنسية والشريكة في منظمة الفرنكفونية العالمية التي تمثل أوسع منظومة دولية بعد الأمم المتحدة حيث تضم 88 دولة وحكومة بين أعضاء مباشرين وأعضاء منتسبين وملاحظين، ما يعطي أهمية خاصة للحدث سواء في البلد المضيف بعد تأجيلين فرضتهما سياقات الجائحة والأحداث السياسية الطارئة، أو في السياق الإقليمي والدولي نتيجة التحولات الإستراتيجية التي تعرفها الكثير من الدول المنخرطة في المنظمة.
وكما هو معلوم، فإن المؤتمر سيتدارس موضوعا رئيسيا هو “التواصل في إطار التنوع: التكنولوجيا الرقمية كرافد للتنمية والتضامن في الفضاء الفرنكفوني”، لكن ذلك يصطدم بواقع تفرضه التباينات الواضحة بين دول قوية وغنية كفرنسا وسويسرا وبلجيكا وكندا وأخرى فقيرة ومتخلفة وتعتبر خارج الزمن وقد تكون الثورة الرقمية آخر اهتماماتها، ومنها دول لا تزال تعيش على وقع صراعات حادة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا كما هو الحال بالنسبة إلى مالي وتشاد وبوركينا فاسو وهايتي ولبنان.
وتنعقد القمة في وقت يمر فيه حضور فرنسا في عدد من مستعمراتها القديمة بامتحان صعب كما هو الحال في دول الساحل والصحراء حيث بات هذا الحضور منبوذا ومرتبطا لدى نسبة مهمة من أبناء تلك الدول بنهب الثروات ودعم الدكتاتوريات والتستر على الفساد، كما أصبح الكثير من أهل السياسة والثقافة ينظرون إلى اللغة الفرنسية على أنها عبء ثقيل يرهق حامليه ممن تمسكوا باعتمادها بدعوى أنها لغة انفتاح على العالم وهي أبعد ما تكون عن ذلك، وهم اليوم ينادون باعتماد لغات أكثر انتشارا ورواجا وتأثيرا في عالم اليوم كالإنجليزية والصينية والهندية والإسبانية واليابانية والألمانية والروسية وغيرها، وهو ما جعل دولا عدة تنتبه إلى ذلك، وتتجه إلى إلغاء القداسة المزيفة التي كانت تحظى بها لغة موليير داخل مجتمعاتها.
القمة الفرانكفونية تنعقد في وقت يمر فيه حضور فرنسا في عدد من مستعمراتها القديمة بامتحان صعب حيث بات هذا الحضور منبوذا ومرتبطا بنهب الثروات ودعم الديكتاتوريات والتستر على الفساد
وقد تكون رواندا أبرز مثال على ذلك، وهي التي ألغت الاعتماد على اللغة الفرنسية لأسباب تاريخية وموضوعية واستجابة لتطورات اجتماعية، ومصالح اقتصادية ودواع سياسية من بينها تورط باريس في المذابح العرقية التي عرفتها البلاد في العام 1994، وقد أدى هذا التخلي عن الفرنسية واستبدالها بالإنجليزية إلى تغيير كامل في الأولويات الداخلية والخارجية وفي رسم ملامح العلاقات والتحالفات الدولية كما خططت لها كيغالي والرئيس بول كاغامي، لتتحول رواندا خلال العقدين الماضيين إلى أيقونة أفريقية وإلى دولة ناهضة ذات تجربة اقتصادية مهمة على الصعيدين القاري والدولي فيما بقيت الدول الأفريقية المتمسكة بالفرنسية تراوح مكانها إن لم تكن قد تراجعت إلى الوراء بسبب الحروب الأهلية والصراعات العرقية والانقلابات العسكرية.
يتحدث حاليا 321 مليون شخص باللغة الفرنسية، تعيش نسبة 61.8 في المئة منهم في القارة الأفريقية في شمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء، وتعتبر الفرنسية اللغة الرسمية في 32 دولة وحكومة، وتشير أغلب المراجع إلى أنها تحتل حاليا المرتبة التاسعة بين لغات العالم الأكثر انتشارا وتصل نسبة المتحدثين بها إلى 3.05 في المئة من سكان الأرض فيما تصل نسبة المتحدثين بالإنجليزية إلى 25 في المئة، وأما اللغة العربية فإنها تحتل المركز الرابع بين أكثر اللغات انتشارا، ويتحدث بها سكان في نحو 66 دولة في العالم ويقدر عدد المتحدثين بها بحوالي 6.6 من سكان العالم، وأصبحت لغة معتمدة رسميا في الأمم المتحدة عام 1974.
يتزامن انعقاد قمة جربة مع موعد الاحتفال بالذكرى الخمسين لإنشاء وكالة التعاون الثقافي والتقني، التي شهدت النور يوم 20 مارس 1970، وأطلق عليها لاحقا اسم المنظمة الدولية للفرنكفونية، انطلاقا من المصطلح الذي ظهر للوجود في أواخر القرن التاسع عشر في فرنسا، لوصف الفضاء الجغرافي الجامع بين الناطقين بالفرنسية في العالم، وتعبيرا عن رؤية توافق حولها أربعة زعماء من الجنوب هم الرئيس التونسي آنذاك الحبيب بورقيبة، والسنغالي ليوبولد سيدار سنغور، والنيجيري حماني ديوري، والأمير نورودوم سيهانوك من كمبوديا، وهم من الزعماء الذين قادوا حركات تحرر وطني من الاستعمار الفرنسي وفي نفس الوقت اعتبروا اللغة الفرنسية جسرا للتواصل الثقافي والحضاري فيما بين الدول التي كانت خاضعة للإمبراطورية الفرنسية وبين فرنسا ذاتها التي كانت قبلة للطلاب ومصدر إلهام للنخب المتطلعة إلى الحرية والديمقراطية والتعددية والانفتاح على العالم.
في 20 مارس 1970، وقعت في نيامي بالنيجر 21 دولة، من بينها تونس، على اتفاقية إنشاء وكالة التعاون الثقافي والتقني لتعزيز التعاون في مجالات الثقافة والتربية والبحث. وفي سنة 1998 أطلق على تلك الوكالة اسم الوكالة الحكومية الدولية للفرنكفونية، ثم أصبحت، ابتداء من سنة 2007، تدعى المنظمة الدولية للفرنكفونية، وينص ميثاقها على أن رسالة المنظمة الأساسية هي تجسيد التضامن الفعال بين الدول والحكومات الممثلة بهذا الفضاء الجغرا – سياسي وهي واعية بالروابط والقدرات التي يتيحها الاشتراك في استعمال اللغة الفرنسية والانخراط في القيم الكونية.
يتحدث حاليا 321 مليون شخص باللغة الفرنسية، تعيش نسبة 61.8 في المئة منهم في القارة الأفريقية في شمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء
تضم منظمة الفرنكفونية عددا من الدول العربية كأعضاء وهي تونس والمغرب وموريتانيا ولبنان ومصر وجيبوتي، وعادة ما تحضر الجزائر مؤتمرات المنظمة دون أن تكون عضوا فيها، وبداية من العام 2010 أصبحت دولة الإمارات العربية المتحدة عضوا مراقبا في المنظمة، ومنذ عام 2018، أصبحت عضوا شريكا. وفي العام ذاته، تم توقيع اتفاقية بين فرنسا والوزارة الاتحادية الإماراتية للتربية والتعليم تعود بموجبها اللغة الفرنسية لتدرس في المدارس الحكومية الإماراتية.
ومنذ انضمامها إلى المنظمة الدولية للفرنكفونية كعضو مشارك عـام 2012، تلتزم دولة قطر بقيم الفرنكفونية وتساهم في تعزيز اللغة الفرنسية حيث أن عدد متحدثي اللغة الفرنسية والمدارس التي تقوم بتعليمها يشهد تزايداً مستمرا فـي قطر التي تحرص على المشاركة في مختلف القمم والمؤتمرات الوزارية والاجتماعات التي تعقدها المنظمة على كافة المستويات وتواصل جهودها لخلق حوار دائم بين الثقافتين العربية والفرنكفونية.
وينتظر أن تعاود المملكة العربية السعودية طلبها بالانضمام إلى المنظمة كمراقب، بعد أن كانت قد قدمت لأول مرة طلبا بذلك عام 2016، بيد أن المنظمة فضلت تأجيل الطلب معتبرة أن الملف السعودي غير مكتمل في ذلك الوقت، وكان الملف السعودي قد حصل على دعم من المغرب والسنغال، إلا أنه واجه اعتراضات من قبل كندا، الممول الثاني للمنظمة، والتي تشهد علاقاتها الدبلوماسية مع السعودية توترات بسبب مواقف بعض المسؤولين الكنديين، وفي نوفمبر 2018 سحبت المملكة طلبها بعد أن تعرضت من جديد لبعض الانتقادات، لكن الرئيس الفرنسي يبدو مصرا على أن تحظى المملكة بصفة مراقب ثم شريك مثلها مثل الإمارات وقطر.
يبقى أن انتماء الدول الغنية أو المتقدمة إلى منظمة الفرنكفونية يأتي في إطار التكافؤ والندية مع دولة كفرنسا، فيما لا تزال الدول الفقيرة تجرّ مشاكل تبعيتها الثقافية والاقتصادية والسياسية، وتعاني من التدخل المباشر في خياراتها السياسية، ولذلك فإن شعوبها تحمل فرنسا كل خيباتها وانكساراتها وخساراتها وتنظر إليها كدولة تعتاش على نهب ثروات مستعمراتها القديمة، وعلى استغلال الطاقات البشرية والمادية لتلك الدول المنهكة بشكل يجعل من الفرنكفونية ذاتها قيدا يحتاج أسراه إلى التحرر منه.