محمد أبوالفضل يكتب:
عندما تصبح مصر بلا خصوم
نجح النظام المصري في تقويض الكثير من خلافاته مع جميع الدول خلال الفترة الماضية، وكانت تركيا المحطة الأخيرة في قطار بدأه منذ ثمانية أعوام، حيث بدت الدولة محاطة بمجموعة من الخصوم على الصعيدين الإقليمي والدولي يصعب تذويب الهوة معهم.
تبنّت القاهرة إستراتيجية واضحة في تغليب التسويات السياسية، ولم يمنعها ذلك من امتلاك تكنولوجيا عسكرية متطورة جعلت الجيش المصري في مقدمة أقوى الجيوش في المنطقة، ما يعني أن الاتجاه نحو الحلول السياسية ليس وليد الضعف أو الاستسلام لضغوط خارجية، لكنه منهج خطته الدولة منذ نحو خمسة وأربعين عاما عندما قررت عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل في عهد الرئيس الراحل أنور السادات.
بُنيت المرتكزات الرئيسية لهذا المنهج على خطة تقوم على تغليب السلام، والتي كادت أن تنفرط عقب الأحداث التي تلت ثورة الثلاثين من يونيو عام 2013 بعد أن أطاحت بحكم جماعة الإخوان في مصر، وخلّفت وراءها الكثير من المرارات لدى دول احتضنت الإخوان وعوّلت على استمرارهم في السلطة فترة طويلة.
مع التحسن الكبير في العلاقات مع جميع الدول التي ناصبت النظام الجديد العداء، أصبحت القاهرة بلا خصوم الآن، إذ طوت الصفحات القاتمة مع كل من قطر وتركيا وقبلهما حركة حماس في غزة، وحتى إيران وحزب الله وسوريا، وهو المثلث الذي له خلافات مع دول عربية عديدة تحتفظ مصر بعلاقات هادئة مع أضلاعه الثلاثة، وترى في ذلك وسيلة مهمة لحل خلافاتها الخارجية.
مع التباين الكبير في الموقفين المصري والإثيوبي بشأن سد النهضة، لا تزال القاهرة تفضّل طريق المحادثات على غيره من الطرق الخشنة، وتغاضت عن تلميحات سابقة لها بإمكانية اللجوء إلى القوة العسكرية لحل الأزمة، وهو ما تكرر مع الأزمة الليبية التي لم تعد مصر تتحدث عن حلول عسكرية لها بعد اطمئنانها إلى أن تطوراتها لا تهدد أمنها القومي، ووجدت إمكانية للتفاهم مع القوى المنخرطة فيها.
قلّص النظام المصري خصوماته الظاهرة إلى الحد الأدنى مع الجبهات التي مثلت تهديدا للدولة، وبات بلا خصوم حقيقيين، وانحسرت خلافاته مع الدول التي لم يتفق معها في قضايا معينة إلى درجة لا يمكن وضعها في خانة الخصوم، إذ بدأت غالبية الأطراف في التفاعلات الدولية تقبل بحدود مرتفعة لخلافات لا يحولها إلى عداوات.
ينطبق ما يعرف بتصفير الأزمات في الأدبيات السياسية على الحالة المصرية الراهنة من دون لجوء إلى شعارات تعزف على أوتار نظرية التصفير، ويشير أيضا إلى أن القاهرة تريد تكريس هذا الاتجاه في سياستها، وتراه السبيل الذي يمكنها من التفرغ لحل الأزمات الاقتصادية التي لم تعد تتحمل تكبيلها بالمزيد من الأعباء الخارجية.
تخطو مصر نحو تقديم نموذج جديد للحياد يساعدها في الانفتاح على دول مختلفة ضمن أطر تسعى عبرها لتبدو جزءا من خطابها الرسمي لتتجنب تصنيفها عند الانفتاح على دولة معينة بأنها معها في مواجهة أخرى تربطها بها خصومة أو عداوة.
تحاول الدولة المصرية صياغة نموذجها الذي يجمع بين تناقضات عدة في توجهاتها الخارجية، بما يمكنها من تطبيع علاقاتها مع الجميع، الأمر الذي يبعدها عن التوصيف التقليدي مع أو ضد، والذي يمنحها هامشا كبيرا للحركة خلال الفترة المقبلة.
عانت مصر مثل غيرها من الدول التي اعتقدت إمكانية أن تقبض على العصا من منتصفها وتحدث توازنا في حساباتها السياسية من الأزمة الأوكرانية، فعندما تبنت موقفا قريبا من روسيا كانت تحسب عليها، وعندما تبنت موقفا مؤيدا لأوكرانيا تم تصنيفها على أنها في عداد الداعمين لتوجه الولايات المتحدة.
يصعب على الحالة المصرية أن تواصل سياسة صفر أزمات في تصوراتها الخارجية لفترة طويلة، لأن الجغرافيا السياسية منحتها مكانة مركزية في المنطقة لن تمكنها من الحفاظ على الحياد أو الانفتاح على الجميع من منطلق أن مصالحها تقتضي هذا الطريق، ففي لحظة قد ينفلت عقال أحد التحديات التي تحيط بها في المنطقة، لأن غالبية التسويات التي أقدمت عليها تندرج في باب المسكنات السياسية، لأن هناك الكثير من عوامل تفجير الصراعات كامنة داخلها.
كل مظاهر الهدوء والسلام والاستقرار الواضحة في علاقات مصر مع كل من إسرائيل وحركة حماس، وحتى قطر وتركيا وليبيا وإثيوبيا وإيران، يمكن أن تنفجر في أي وقت، لأن العوامل التي أدت إلى أزمات في أوقات سابقة لم تحل تماما.
يعد الوصول إلى صيغة “صفر مشاكل” من قبيل الخيال الذي يراود البعض من القادة، وإذا افترضنا أن النظام المصري بلغ من النضج والحكمة والرشاد ما يمكنه من الانفتاح على الجميع وإقامة علاقات جيدة مع من كانوا في عداد الخصوم من قبل، فكيف يتصرف إذا تعرض لأزمة مفاجئة مع أي من الدول التي تمثل تهديدا حقيقيا؟
تمثل الترسانة التي يملكها الجيش المصري المخزون الاحتياطي الإستراتيجي أو سلاح الردع الذي يمنع الوصول إلى مرحلة الصدام مع الخصوم المحتملين في المنطقة، لكن الهدوء العام الذي تنشده القاهرة لن يتماشى مع حجم المشاكل الداخلية التي يصعب إيجاد حلول عاجلة لها، وربما تحتاج إلى عدو أو خصم يسهم في ردع الشعب عن الاحتجاج على عدم قدرة النظام على الحد من تداعيات الأزمة الاقتصادية.
يصلح تطبيق منهج “صفر مشاكل” مع الدول التي لا تمثل أزماتها الاقتصادية عنصرا مركزيا في حياة شعوبها، أو مع الدول التي حققت مرحلة متقدمة من رفاهيتها، ومصر لا ينطبق عليها هذا أو ذاك، وقد تحتاج إلى استدعاء المنهج البراغماتي الشهير في العلوم السياسية “إذا أردت أن توحّد شعبا فاخلق له عدوا (خصما) خارجيا”.
يلبي الخصم الخارجي حاجة لدى بعض الأنظمة لأنه يخفف الأعباء الداخلية الواقعة على كاهلها، غير أن استمراء اللجوء إليه يفقد أهميته ويؤدي إلى نتائج كارثية، فالنظام الذي يرتضي تصفير أزماته ويضع منطقا سياسيا لهذا التوجه عندما يتخلى عنه ولو جاء التخلي مدفوعا بأسباب حقيقية قد يتعرض لانتقادات شعبية، ويحاط بشكوك حيال الدوافع التي قادته إلى الدخول في خصومة مع إحدى الدول في لحظة معينة.
من المفيد أن تنقّي مصر خلافاتها مع جميع الدول من الأزمات العالقة، إلا أن الحكمة تقتضي عدم المبالغة في التحول من النقيض إلى النقيض، حيث انتقلت تركيا من خصم عنيد إلى صديق قريب وفقا لمفردات بدأ يستخدمها الإعلام المصري، ما يضع مصداقية القاهرة على المحك في حالتي الخصومة والصداقة السريعة.