علي الصراف يكتب:
صنع السياسات بين الأيديولوجيا والأقدار
السياسات بنتائجها.. فإذا اتضح أنها ضارة اقتصاديا وتهدد الاستقرار الاجتماعي وتدفع إلى العزلة في الداخل والخارج، فماذا يجب أن تفعل؟
سؤال لن تجد له جوابا في بعض بلدان اجتمع على أمرها العقائدية والقدر.. وعندما لا تجد هذا الجواب، فماذا تكون العاقبة؟
هذا سؤال آخر، أصعب من سابقه، لأنه يكشف عن أخطار لا حدود لها، قد تؤدي إلى انهيارات عامة، واضطرابات وتمزقات، بل وحتى صدامات مسلحة.
وعندما يحدث ذلك، فما النتيجة التي يتوجب على صانعي تلك السياسات أن يتوقعوها لأنفسهم؟
هناك، كما دلَّت التجارب، أحد مصيرين اثنين. الأول يشبه الانتحار على أيدي الغاضبين. والثاني يشبه انتحار البلاد على أيدي الذين انتصروا عليها.. وهما مصيران يعدان بالبؤس والخسران.. ولا يعدان بأي شيء آخر.
والعمى الأيديولوجي أو العقائدي هو أن تتخذ قرارات في السياستين الداخلية والخارجية بناء على قناعات وافتراضات ومواقف وتصورات مسبقة وثابتة.. أو بمعنى آخر، أن تلبس للحياة نظارات ملونة، فترى تفاصيلها باللون الذي تختار. لا هو لونها الحقيقي، ولا هي تلبس ما تلبسه أنت، فيحصل التصادم بينك وبين الواقع. تدفع في اتجاه، بينما يدفع الواقع في اتجاه آخر.. فيُصبح التعثرُ، بدلا من التقدم، هو الصفة الغالبة على مجريات الحياة في كل التفاصيل، من أصغرها إلى أكبرها.
وقد يكون لصنّاع السياسة "رأي" أو "قناعة" ما. وهذا أمر طبيعي. وهو عريض إلى درجة أنك قد لا تجد أحدا دون "رأي" أو "قناعة" ما.
بعض الفلاسفة يقولون إن لكل إنسان رؤيته الخاصة للحياة، ما يجعله، بدرجة أو أخرى، فيلسوفا.. وهذه "الرؤية" غالبا ما تُبنى على أساس مفاهيم وتجارب وحسابات، يقوم العقل بضرب أخماسها بأسداسها، حتى تنضج كقناعة أو "موقف".
فتقول، حسنا.. ولكن ماذا لو تغيرت الأخماس والأسداس؟ هل تُبقي على القناعة أو "الموقف" نفسه؟ وإذا أبقيت، فماذا سوف يحصل؟
الحياة إنما تقوم على منظومات من الحقائق.. وهي بطبيعتها "متغيرة".. والتعامل معها يتطلب منظومة تستوعب ما يتغير في الأخماس والأسداس، لكي يتجنب المرء ما يُشبه المس الكهربائي بينه وبين الواقع. فإذا لم يفعل، فماذا تتوقع أن يحصل؟
الصعقة، هي ما يحدث عادة. وشدتها تعتمد على مقدار ما يتجاهله السياسي من الحقائق.
لقد اختارت بعض "بلدان العمى العقائدي" أن تتجاهل الحقائق، وتتجاهل الضرر. وأصبح العمى نفسه مقدسا، إلى درجة تدفع إلى الخشية من أن التخلي عنه يعني، في حسابها، تنازلا جسيما يهدد الاستقرار.
فإذا أمعن المرء النظر في هذا الافتراض، فسيجد أنه ينطوي على التواء، لأجل التهرب من الاعتراف بأن الحقائق حقائق. ومصدر الالتواء هو أن الحقائق هي ما يتوجب الامتثال له، وليس "المقدس" الذي قام على "رؤية" لم تلحظ ما تغيّر على أرض الواقع. وأن "المقدس" نفسه هو الذي يصنع عدم الاستقرار، وليس التخلي عنه.
بعض البلدان يفقر ويجوع شعبها، وتنهار قيمة عملتها، وتتعثر قدرتها على الإنتاج، ويصيب أركان إدارتها الشلل، ويتزعزع استقرارها الاجتماعي، وتواجه امتحانات يومية عصيبة، تارة بين احتجاجات غاضبة، وأخرى بين مطالب لا تتوفر الموارد للاستجابة لها.. ثم تمضي قدما لتحارب طواحين الهواء، وتبني، على وهم ما تعتقد، وهما إضافيا من تغذية نزاعات وانقسامات وحروب.. لأن "مقدسها" لا يجد لنفسه سبيلا إلا أن يُعاند، مقتنعا بأن أخماسه هي الأخماس، وأن أسداسه هي الأسداس، التي لا سبيل إلى تغييرها، وإلا انهارت العمارة. وهي على أي حال عمارة أوهام وافتراضات يسخر الواقع منها باستمرار، فيزيدها ضعفا على ضعف. حتى لتنهار من تلقاء نفسها، وإن ساد الاعتقاد بأن جدرانها ما تزال قوية، وأن ساكنها ما يزال يتلقى إلهامه بالحلول الشاملة لكل المشكلات، وبالافتراضات بأن كل ما تعانيه بلاده هو بسبب مؤامرات ما وراء البحار.
السياسات بنتائجها. وإحدى نتائجها أن الأبقار لم تعد تعطي حليبا كما كانت، وإن السنابل لم تعد تحمل من حبوب القمح ما كانت تحمله، وأن الحصار التجاري هو سبب تفشي الأوبئة، وإن السفن المحملة بالبضائع وجدت من يشتريها، ولكنها لم تجد من يدفع الثمن بالعملة "الصعبة"، بينما العملة السهلة صارت أسهل بكثير مما كانت أيام كانت الطيور تغرد ألحان الخُمس الأول مضروبا بسُدس تعهدَ على ألا يتغير مهما تقلب به الزمان.