محمد السماك يكتب:

لماذا فجّر البابا بنديكتوس العلاقة مع الأزهر؟

في عام 1964 عُقد في الفاتيكان مجمّع ديني استمرّ حوالي عامين شارك فيه عدد كبير من الكرادلة والبطاركة من مختلف أنحاء العالم وانتهى بإصدار وثيقة تاريخية تُعرف باسم "نوسترا إيتاتي" Nostra Eatate، وهي كلمة لاتينية معناها "حالة عصرنا". في هذه الوثيقة أعادت الكنيسة الكاثوليكية النظر في مواقفها من قضايا دينية جوهرية من بينها:

1- الاعتراف بالكنائس غير الكاثوليكية (الإنجيلية والأرثوذكسية).

2- عدم تحميل اليهود المعاصرين وزر جريمة صلب السيّد المسيح.

3- الاعتراف بالإسلام ديناً توحيديّاً، وبالمسلمين مؤمنين بالله.

كان البابا بنديكتوس في ذلك الوقت برتبة كاردينال، وكان أحد أعضاء لجنة الصياغة. وهو آخر الأعضاء الذين بقوا أحياء حتى وافاه الأجل بالأمس.

البابا بنديكتوس أستاذ الفلسفة واللاهوت في جامعات ألمانيا، كان طوال عهد البابا الراحل يوحنّا بولس الثاني العقل اللاهوتي المفكّر والمقرَّب جدّاً منه.


ظلّت العلاقات بين الأزهر والفاتيكان مقطوعة إلى أن استعفى البابا وانتُخب البابا الحالي فرنسيس. فوجّه إمام الأزهر الشيخ أحمد الطيّب رسالة تهنئة له. وهكذا عادت العلاقات الودّية بين الأزهر والفاتيكان إلى طبيعتها

ترك البابا أثرين عميقين في علاقات الفاتيكان مع العالم الإسلامي. يتعلّق الأثر الأوّل بمحاضرة ألقاها في إحدى الجامعات الألمانية ونقل فيها نصّاً لإمبراطور بيزنطي تضمّنت سوء فهم للإسلام. يومذاك قامت تظاهرات متعدّدة في العديد من الدول الإسلامية، وقرّر الأزهر الشريف مقاطعة الفاتيكان إلى أن يعتذر البابا.

ردّ الفاتيكان مرّتين. وفي كلّ مرّة كان يؤكّد أنّ ما ذكره البابا ليس رأيه، لكنّه استشهاد برأي أورده في إطار محاضرة علمية وليس في إطار تشريع ديني، وأنّ الاستشهاد بالنصّ لا يعني تبنّيه.

مع ذلك أصرّ الأزهر على الاعتذار. والواقع هو أنّ هذا النص وردَ في كتاب أعدّه المفكّر اللاهوتي اللبناني الأب الدكتور تيودور خوري، الذي ترجم القرآن الكريم إلى اللغة الألمانية.

ظلّت العلاقات بين الأزهر والفاتيكان مقطوعة إلى أن استعفى البابا وانتُخب البابا الحالي فرنسيس. فوجّه إمام الأزهر الشيخ أحمد الطيّب رسالة تهنئة له. وهكذا عادت العلاقات الودّية بين الأزهر والفاتيكان إلى طبيعتها حتى كان لقاء أبو ظبي وصدور وثيقة الأخوّة الإنسانية عن الإمام الطيّب والبابا فرنسيس.

سينودوس عام 2010

لكن قبل ذلك بادر البابا بنديكتوس في عام 2010 إلى دعوة ثلاثة شخصيات من غير المسيحيين إلى سينودس عن الشرق الأوسط، وهم: يهودي من إسرائيل (الحاخام دافيد روزن)، ومسلم شيعي من إيران (الشيخ محقق داماد)، ومسلم سنّيّ من لبنان (كاتب هذه السطور).


بوفاته يترك في الفاتيكان وفي العالم الكاثوليكي فراغاً في الفكر اللاهوتي من الصعب أن يملأه عالِم آخر

في عام 2012 جاء البابا إلى بيروت لإعلان وثيقة الإرشاد الرسولي التي تضمّنت نتائج السينودس وأكّدت أمرين أساسيَّين:

- الأوّل هو الحرّية الدينية واعتبارها تاج الحرّيات.

- والثاني هو المواطنة على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين، وليس على قاعدة التسامح.

تبنّى الأزهر الشريف في المؤتمرات التي عقدها بعد ذلك الموقفين من الحرّية الدينية التي وصفها بأنّها أمّ الحريات، ومن المواطنة على قاعدة المساواة.

هكذا انطلق قطار التعاون الإسلامي - المسيحي من خلال التعاون بين الأزهر والفاتيكان، وتتالت زيارات البابا فرنسيس التي شملت القاهرة والرباط وعمّان وأبو ظبي وبغداد.

أمّا البابا بنديكتوس فقد انصرف إلى التأليف اللاهوتي في صومعته في الفاتيكان بعدما أصبح البابا الثاني في تاريخ الكنيسة الذي يعفي نفسه من منصبه. وكان وقع حادث الاستعفاء الأوّل قبل 600 عام.

يُظلَم البابا بنديكتوس إذا كان تمييزه يقوم على أساس أنّه البابا الذي استقال أو استعفى (تُقدَّم الاستقالة إلى من هو أعلى رتبة منه، ولأنّ البابا يُعتبر ممثّلاً للمسيح عليه السلام، فلا يوجد شخص يقدّم له أو هيئة يقدّم لها استقالته، فلذلك يعفي نفسه ولا يستقيل).

ويُظلم إذا اعتُبر البابا الذي عرف أنّ شقيقه المطران كان يمارس الجنس سرّاً وسكت عنه.

يُظلم أيضاً إذا اعتُبر البابا الذي فجّر أزمة مع المسلمين.

الواقع أنّ هذا البابا هو من كبار علماء اللاهوت، ولعب دوراً مهمّاً في صياغة وثيقة "نوسترا إيتاتي"، ورافق البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني في كلّ مسيرته البابوية وكان "عقله المنفصل" في العديد من القضايا اللاهوتية الشائكة التي واجهها.

بوفاته يترك في الفاتيكان وفي العالم الكاثوليكي فراغاً في الفكر اللاهوتي من الصعب أن يملأه عالِم آخر.