فاروق يوسف يكتب:
حين يودع العراقيون قاتلا
تزعم إيران أن زعيم فيلق القدس السابق قاسم سليماني كان مدعوا إلى العراق بشكل رسمي يوم مقتله.
وهو ما يعني أن العراقيين لم يبذلوا جهدا لحمايته وأنهم خذلوه وهو الذي حمل شعلة الثورة الاسلامية إليهم.
تلك وسيلة لتثبيت شعور بالذنب والندم لدى العراقيين شبيه بشعورهم إزاء مقتل الامام الحسين على أراضيهم عام 61 هجرية.
وليس مستبعدا أن تكون الحكومة الإيرانية قد أجبرت العراق على دفع تعويضات لعائلة سليماني. أرملته وأولاده وأحفاده وأحفاد أحفاده هم في ذمة الدولة العراقية وإلى الأبد كما الحكاية الحسينية بالضبط. ليس على العراقيين أن ينسوا الذنب الذي ارتكبوه.
ولو عدنا إلى الوقائع فإن سليماني لم يكن في حاجة إلى دعوة لكي يدخل إلى العراق فاتحا ومحررا وسيدا لا يمكن لأحد أن يطالبه بابراز جواز سفره. لم يكن سليماني ضيفا، بل هو صاحب الدار. وهو إن لم يكن يلتقي المسؤولين الحكوميين أثناء زياراته المتكررة للعراق فلأنه لا يرى نفعا في لقائهم. فما يريد أن يفعله لا يفعله من خلالهم، بل من خلال الأحزاب والميليشيات التي يديرها في العراق والتي يدين أفرادها بالطاعة له مثلما هو حالهم مع خامنئي بالرغم من أن صلته المباشرة بهم تجعل منه الأقرب إلى قلوبهم من بين الأثنين.
عقائديا آمن الولائيون بنظرية ولاية الفقيه التي تجعل من ذلك الولي وصيا عليهم في الدنيا والآخرة ولكن سليماني كان بالنسبة لهم هو روح المقاومة الهائمة التي لا يمكن الإمساك بها.
لذلك كانت الضربة الأميركية بداية عام 2020 صادمة لهم. ما لم يكن يتوقعوه أن تنقل الولايات المتحدة الصراع من منطقة المهادنة إلى منطقة المواجهة حين اجتثت تلك الروح التي هي روح ارهابية شريرة من وجهة نظرها. وفي حقيقة شعور البعض من زعمائهم الذين تتلمذوا على يد سليماني كانت هيمنة الرجل عليهم بعد أن وصلوا إلى السلطة عبئا ثقيلا، ارتاحوا حين غيبته الضربة الأميركية، غير أن أحدا منهم لن يجرؤ على التصريح بذلك.
أزاح الأميركان سليماني عن طريقهم لأسباب خاصة بهم لا علاقة لها بما يحتاجه العراقيون أو بأمن وسلامة وسيادة الدولة العراقية. لم يعترف الأميركان بتلك الأسباب فهم لا يحتاجون إلى القيام بذلك. كان مقتل سليماني جزءا من استراتيجية الحرب على الإرهاب. وليس في الإمكان إنكار حقيقة أن الرجل كان عبر سني حياته منهمكا في تصفية أعداء الثورة الإسلامية داخل إيران وخارجها. فهو نموذج القاتل الذي سقط آلاف المدنيين قتلى على يديه أو بناء على أوامره. وما ولع خامنئي به إلا دليل على أنه كان يده اليمنى في تصفية أعداء النظام ونشر الثورة التي هي في حقيقتها تجسيد للفقر والمرض والجهل والفاقة وإنهيار سبل العيش. وهو ما تؤكده الحال في كل مكان تهيمن عليه إيران من اليمن إلى لبنان مرورا بسوريا والعراق. سليماني كان هو الرمز في تلك البقاع التي صارت الكوارث تضرب شعوبها من كل الجهات.
مرت ذكرى يوم مقتله حزينة في العراق. كان هناك حطام لسيارتين هما ما تبقى منه. نصب تذكاري يحتل موقعا مميزا في الطريق إلى مطار بغداد. كان من اليسير أن يُخلد زعيم المقاومة الشهيد من خلال تمثال يقف في ذلك المكان الذي شهد عملية تصفيته غير أن مشهد السيارتين المحروقتين هو الأكثر تأثيرا على العقول والقلوب مثلما كان مشهد منع الحسين وعائلته من شرب الماء هو الأكثر مدعاة للشعور بالذنب من مشهد مقتله. يعرف الإيرانيون أنهم يلعبون في الفراغ الطائفي الذي ضيع فيه العراقيون الكثير من أسباب وجودهم.
جبل من الأكاذيب امتزجت بصخوره الأحداث التاريخية والرواية المتخيلة فارسيا التي كان يُراد منها اتهام العراقيين وإذلالهم واهانتهم ووصفهم بالخيانة واجبارهم على دفع ثمن ذنب لم يرتكبوه. وكانت تلك فرصة لإدخال الحكاية السليمانية إلى تلك العقدة التاريخية الزائفة من أجل تكبيل شيعة العراق بمزيد من الأوهام التي لن يتحرر منها البسطاء والجهلة منهم.
ولأن إيران تعيش اليوم وقتا عصيبا بسبب الاحتجاجات التي تغص بها شوارع مدنها بعد حادثة مقتل الفتاة الكردية مهسا أميني فقد عمدت إلى دفع أتباعها للاحتفال بوداع زعيمهم بعيدا عن السفارة الأميركية. كان هناك حطام سيارتين محترقتين قد يُبنى عليه ضريح في المستقبل القريب لكي يكون أثرا ينافس طاق كسرى في المدائن من جهة دلالته على الاحتلال الإيراني.