علي الصراف يكتب:

الكويت في أزمة الهرب من معالجة الأزمة

مرة أخرى، آثرت الحكومة الكويتية أن تستقيل في مواجهة ضغوط النواب واستجواباتهم. ما يؤكد أن هناك أزمة ذات طبيعة بنيوية ليس في العلاقة بين الحكومة والنواب، رغم أنها تظهر كذلك، وإنما في طبيعة الحكومة والمجلس هما نفسيهما.

وحيثما انتهى الطرفان إلى العجز عن معالجة هذه الأزمة فقد بقي الظاهر وكأنه هو القضية.

السؤال لم يعد ما إذا كان هناك مَنْ هو قادر على أن يُنقذ الكويت. السؤال عاد ليكون: مَنْ ينقذ الكويت من نفسها. فهي بين فشل في السلطة وفشل في المعارضة، صار ظهرُها على جدار أصم، يتطلب من مؤسسة الحكم، بجناحيها، أن تعيد تنظيم نفسها على الأقل، لتعرف كيف تخوض معركة الاستقرار، فلا تُطعن، لا من أمام ولا من خلف.

المعارضة التي رفعت مطالب شعبوية غير قابلة للتحقيق، مثل قضية إطفاء الديون، تظل معارضة في النهاية. بمعنى أنها تستطيع أن تطالب بإطفاء ضوء القمر، وليس إطفاء الديون فحسب. ولكن عقلانية الرد على المطالب، والحرص على تقديم تبريرات مقنعة للسياسات الحكومية، هو المسار الطبيعي الذي يتعين الأخذ به.

المشكلة الأهم تكمن في أن الحكومات المتعاقبة لم تؤسس "مسارا طبيعيا" لا في العلاقة مع البرلمان، ولا مع إدارتها هي نفسها للشؤون الحكومية. فظلت مطالب الاستجوابات لتبدو تحديا، وظلت الاستقالة لتبدو جوابا.

المشكلة الأهم تكمن في أن الحكومات المتعاقبة لم تؤسس "مسارا طبيعيا" لا في العلاقة مع البرلمان، ولا مع إدارتها هي نفسها للشؤون الحكومية

المسار القائم على المناكفة والحرد، والذي كان يتعين وقفه، عاد ليكون هو الغالب.

فنتازيا المطالب إذا كانت تحتاج عقلانية في الرد عليها، فإن الاستجوابات المتعلقة بشؤون الإدارة العامة لا يُرد عليها بالاستقالة. ولقد ثبت بما لا يقبل الشك أن الاستقالات ليست هي الحل.

لم يعد من العملي الاستمرار بهذا الخيار في التعامل مع القضايا العامة، لأنه يراكم المشاكل ويزيدها تعقيدا، ويجعل المواجهات بين الحكم (وليس الحكومة وحدها) وبين نواب الشعب، مواجهة شك في الشرعية نفسها.

النائب مبارك الحجرف، على سبيل المثال، قدم استجوابا بحق وزير المالية عبدالوهاب الرشيد، يتعلق بسبعة محاور شملت قضايا من قبيل “إهمال موظفي المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية في تحصيل مديونيات شركات تخلفت عن دفع اشتراكات، والضرر على المال العام الناتج عن صفقة استحواذ بيت التمويل الكويتي على البنك الأهلي المتحد، وعدم الالتزام بتطبيق القانون رقم 1 لسنة 1993 والخاص بحماية الأموال العامة، وتضليل مجلس الأمة بإجابات كاذبة وغير دقيقة ومنقوصة، وسوء إدارة صندوق الأجيال القادمة والاحتياطي العام”.

السؤال المنطقي هو: ما الذي يمنع وزيرا، تسلم إدارة وزارته، قبل أربعة أشهر، من أن يقدم أجوبة على هذه القضايا؟

النائبة الدكتورة جنان بوشهري، التي كانت هي نفسها وزيرة دولة لشؤون الإسكان بين عامي 2017 – 2019، قدمت استجوابا آخر بحق وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء، تساءل عن “إساءة استخدام سلطة مجلس الوزراء للمادة (80) من القانون رقم (61) لسنة 1976 بإصدار قانون التأمينات الاجتماعية، وإصدار مراسيم تعيين قياديين في الدولة لا تنطبق عليهم شروط شغل الوظائف القيادية، والفشل في القيام بالمهام الموكلة له بالتنسيق مع مجلس الأمة”.

العمل الحكومي لكي يكون سليما، فإنه يستجيب لمطالب التصويب، لا أن يعاندها. ولا تحتاج إلى معارضة تسألك عن الصواب أصلا

الحجرف وبوشهري، بين أمثلة أخرى كثيرة، ليسا ممن يقصدون دفع الحكومة إلى الاستقالة. إنهما ممن يقصدون دفعها إلى الصواب الذي عجزت عن سلوك سبيله.

إذا كان هناك خلل، فما العيب في الاعتراف بوجوده، والسعي لإصلاحه؟

العمل الحكومي لكي يكون سليما، فإنه يستجيب لمطالب التصويب، لا أن يعاندها. ولا تحتاج إلى معارضة تسألك عن الصواب أصلا. ولكن إذا عجزت عنه، فمن الخير أن تُسأل.

المسألة هنا، ليست مسألة صدام بين حكومة ومعارضة. إنها مسألة صدام بين صح وخطأ. بين مؤسسة إدارة ومؤسسة رقابة. والرقابة المنضبطة والعقلانية إن لم تجدها في البرلمان، وجدتها فوضوية وعشوائية في الشارع. وهذه مشكلة أكبر، لأنك إذ تستطيع أن تتخاطب بالعقل مع نواب البرلمان، فقد لا تستطيع أن تتخاطب، لا بالعقل ولا بسواه، مع شارع غاضب.

وهناك خلل إداري واضح، والكل يعرف، في الوقت نفسه، أن الوقت قد حان، لتحقيق إصلاح حكومي شامل، ولإعادة بناء الثقة بين السلطة والمعارضة على أسس التعاون والاحترام المتبادل. وهذه لا بد وأن تستند إلى معايير تتعلق بالحوكمة الرشيدة نفسها.

قد لا تنتظر من المعارضة أن تتعقل. لا بأس. ولكن ما الذي يمنع مؤسسة الإدارة عن اقتفاء أثر الصواب أصلا. ما هي المشكلة في أن تتدبر الحكومة شؤونها بما يتوافق مع أرقى المعايير القانونية والأخلاقية، وأن تتخذ قراراتها الاقتصادية والاجتماعية بالاستناد إلى دراسات جديرة بالثقة، محايدة، وتستهدف الصالح العام وحده.

الاستجوابات لا تعود عندئذ، لتبدو وكأنها محاكمات جاهزة الاتهام والإدانة، بل مجرد مساءلات مشروعة، تنتظر أجوبة عاقلة؛ أجوبة لا تخشى في قول الحق لومة لائم، كائنا من كان اللائم.

المشكلة، في أساسها، هي أن مجلس الأمة يعبر عن نسق سياسي، ويريد أن يفرضه على الحكومة، بينما الحكومة تعبر عن نسق آخر لطبيعة السلطة

بهذه الطريقة فقط، كان من الممكن أن يُبنى مسار رشيد، بأن تُبنى حكومة على أسس مؤسسية تحترم لائحة القوانين، قبل أن يلاحقها البرلمان بالأسئلة.

المطالب غير العاقلة سوف تدحض نفسها بنفسها، في ظروف كهذه. إطفاء ما يعادل 46 مليار دولار من الديون مطلب خرافي بالنسبة إلى ميزانية أي دولة. بل إن مجرد الحديث فيه، ينطوي على ضرر، إذ أنه يشجع المدينين ضمنيا على الكف عن تسديد أقساط قروضهم. فتتضاعف المشكلة.

المعارضة في الكويت تبدو وكأنها تتصيد في الماء العكر. إنها تبحث عن الثغرات لتستثير المواجهات. ولكن الوجه الآخر للحقيقة هو أن الماء العكر موجود أصلا، وكان يجب أن يتصفى.

أعط ماء عكرا لأي أحد. فلا تلمه إذا تصيد فيه. هذه حقيقة بسيطة، ما يزال من الممكن إدراكها. وما يزال من الممكن الاستدراك على أساسها.

يحق للمعارضة، من بعض النواحي، أن تكون ما تكون. ولكن عندما تصبح الشرعية نفسها موضع سجالات ومناكفات، فلا يحق لمؤسسة الإدارة الحكومية إلا أن تكون من نوع واحد. تحسب الحساب للمحافظة على المال العام وتدير شؤون البلاد بقيم العدالة والإنصاف والمساواة.

المشكلة، في أساسها، هي أن مجلس الأمة يعبر عن نسق سياسي، ويريد أن يفرضه على الحكومة، بينما الحكومة تعبر عن نسق آخر لطبيعة السلطة. التوافق على نسق مؤسسي واحد هو ما عجز عنه الطرفان.