د. مصطفى يوسف اللداوي يكتب لـ(اليوم الثامن):
لا صوت يعلو فوق صوت الزلزال إلا الاحتلال
الزلزال حدثٌ ضخمٌ مرعبٌ مهولٌ لا يمكن تصور نتائجه وتخيل تداعياته، ولا يوجد في الكون من لا يخشاه أو يخاف منه، إذ لا قدرة للإنسان مهما بلغ في علومه أن يتنبأ به أو يتوقعه، وأبحاثه العلمية مهما كانت دقيقة وعميقة، فإنها لا تتمكن من تحديد زمانه وقوته ومدته، فقد أعيت الزلازل العلماء، وحيرت العارفين والمتنبئين، ولم تنجح معها هندسات البناء ودراسات طبقات الأرض، ولم تُجدِ البشرية نفعاً فطرةُ الحيوانات وإحساسها المبكر، وبدا الإنسان أمامها وسيبقى ضعيفاً لا حول له ولا قوة، ولا قدرة عنده ولا منعة، ولا وسيلة أمامه ولا طريقة، ليتجنب ويلاتها المدمرة، وانتفاض طبقات الأرض المحيرة.
لا حديث اليوم في منطقتنا العربية والجوار إلا عن الزلزال المدمر، الذي أصابها فجراً وأرعبها، وأيقظها من سباتها ليلاً وأذهلها، وأذهب النوم من عيونها وأقلقها، فقد شعر به السكان جميعهم وخافوا، وانتفضوا من فراشهم وهربوا، وتركوا بيوتهم وخرجوا، ولم يجمعوا من متاعها شيئاً وتخلوا، وأخذوا معهم أطفالهم إلى الشوارع والساحات وتحت السماء استظلوا، ولم يعودوا إلى بيوتهم ومساكنهم التي ظنوا أنها ستهوي، وستسقط على رؤوس ساكنيها ومن جاورهم، فصبروا أمام هول الزلزلة على الصقيع والزمهرير والجليد ورأوه أرحم من الأرض إذا تزلزلت، وأرفق بهم إذا أزفرت.
ما زالت أعداد الضحايا في ازدياد، وقد تجاوز عددهم في سوريا وتركيا أكثر من ألفي قتيل وقرابة العشرة آلاف جريحاً، والحالات التي يكشف عنها خطيرة والتوقعات سيئة، وربما تكشف الساعات القادمة عن ضحايا جدد، فالدمار كبير والركام كثير، والمباني الآيلة للسقوط والانهيار كثيرة، فهي في أصلها في الجانب السوري ضعيفة ومتصدعة، ويقيم فيها عددٌ كبيرٌ من اللاجئين السوريين إلى جانب سكان المنطقة الأصليين، الذين يعانون من الفقر والعوز والحاجة، ونقص الإمكانيات وضعف القدرات، وزاد في المصيبة سوءً فصل الشتاء القارص، وموجات الصقيع المميتة، في ظل عواصف باردة، تحمل معها في ظل تدني درجات الحرارة إلى ما دون الصفر ثلوجاً كثيفة، تعيق الحركة وتمنع السكان من التنقل وتجنب الأسوأ.
لكن الزلزال يبقى قدراً من الله عز وجل، وأحد سنن الكون ونواميس الحياة، التي اعتاد عليها الإنسان وقبل بها وتعايش معها، وحاول أن يتقي أخطارها ويتجنب الأسوأ من تداعياتها، فلا يستطيع إزاءها إلا أن يُسَلِمَ بها ويرضى، ويخضع لها ويتعامل معها، ويتضامن مع بعضه ويتعافى، ويدعو الله عز وجل أن يرأف بهم ويرحمهم، وأن يتلطف بهم ويكون معهم، وأن يخفف عنهم ويقلل خسائرهم، وأن يرحم الضحايا الذين سقطوا، ويخفف من معاناة المصابين الذين جرحوا ويعجل في شفائهم، ويصبر المكلومين والمفجوعين، ويعوضهم خيراً على ما أصابهم، ويجزيهم خير الجزاء على ما لحق بهم، وأن يثبت أقدامهم ليتجاوزوا المحنة ويتخطوا النكبة.
أما النكبة الأخرى فهي أشد وأنكى من الزلزال، إذ تتكرر مأساتها كل يومٍ، وتزداد حدتها يوماً بعد آخر، ويكتوي بنارها شعبٌ وأمةٌ، وتتوارث نيرانها أجيالٌ وأحفادٌ، يقتل أبناؤهم، ويعتقل رجالهم، وتطرد عائلاتهم، وتهدم بيوتهم، وتصادر أرضهم، وتداس كرامتهم، وتنتهك مقدساتهم، ويعتدى عليهم بكل الوسائل والسبل، ويتفنن أعداؤهم في التنكيل بهم والبطش، والعدوان عليهم والقتل، ويمارسون السادية عليهم، ويعذبون قهراً أسراهم، ويمعنون في الإساءة إليهم والتضييق عليهم، انتقاماً منهم وأملاً في تركيع أهلهم وتيئيس شعبهم.
عنيت بالنكبة الأخرى فلسطين وشعبها، التي أصابها زلزال الحركة الصهيونية البغيضة، وصدعت طبقاتها الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاستعمار وقوى الاستكبار المتحالفة مع الكيان والداعمة له، التي تآمرت مع العصابات الصهيونية والتنظيمات اليهودية على الشعب الفلسطيني وأمته العربية والإسلامية، فأصابت قلبهم وصدعت بنيانهم، وتسببت في مقتل مئات آلاف الفلسطينيين، ولجوء أضعافهم إلى دول الجوار والشتات، وما زال هذا الزلزال مستمراً، وموجاته الارتدادية متكررة، ولعلها لا تقل قوةً عن الزلزال الأول الذي منيت به يوم النكبة، ولا ذاك الذي أصابها يوم النكسة، ولا غيرهما مما تمنى به يومياً على أيدي حكوماته المتطرفة وجيشه المعادي ومستوطنيه الحاقدين.
قد ينسى سكان المنطقة الزلزال الذي أصابهم ودمر بنيانهم، وهم يودعون شهداءهم ويترحمون عليهم، فهذا أمرُ الله عز وجل وقضاؤه، ونحن به نرضى ونسلم، ونؤمن به ونقبل، فقضاؤه عدلٌ ورحمةٌ، وهو حكمةٌ وعبرةٌ، أما زلزال فلسطين فهو الزلزال الذي لن ينسى، ونكبتها التي لن تطوى، وسيبقى شعبها يقاوم ويصر على البقاء، ويتمسك بالثوابت، ويؤمن بحقوقه المشروعة في استعادة أرضه والعودة إلى وطنه، وتحرير دياره وعودة أبنائه، مهما تزلزلت الأرض ومادت طبقاتها تحت أقدامه، وكثر شهداؤهم ودفنوا تحت ترابه.