إبراهيم أبو عواد يكتب لـ(اليوم الثامن):
البناء الاجتماعي والعقل الجمعي وتحرير الإنسان
الأنساقُ الفلسفية في البناء الاجتماعي نابعةٌ مِن الهُوِيَّة الوُجودية للفرد في رحلة بَحْثِه عن ذاته وحياته . ورحلةُ البحثِ لَيْسَتْ انتقالًا ميكانيكيًّا في الزمان والمكان ، بَلْ هي انتقالٌ ديناميكي في تأثيرات سُلطة العقل الجَمْعي في مَصادرِ التاريخ وقَواعدِ المعرفة . وهذه التأثيراتُ مُرتبطة بجذور المشروع الحضاري للمُجتمع ، وقُدرته على تَوحيد الذاتِ والمَوضوعِ في مَنطِق اللغة الرمزي الذي يتحكَّم بالعلاقاتِ الاجتماعية ، وانعكاساتِها على الأحداثِ اليومية والوقائعِ التاريخية . وسُلطةُ المُجتمعِ المَعرفيةُ لا تتجذَّر في الإدراكِ الحِسِّي والوَعْيِ الفَعَّال ، إلا باعتمادِ التفكير النَّقْدِي في الواقع المُعَاش ، وتحريرِ الظواهر الثقافية مِن قُيود الأحكامِ المُسْبَقَة والقوالبِ الجاهزة . وإذا كانت المعرفةُ تَكتسِب شرعيتها مِن صَيرورةِ التاريخ ومَركزيةِ الوُجود، فإنَّ الهُوِيَّة تَستمد سُلطتها مِن الترابط المصيري بين مَنطِقِ اللغة الرمزي وأشكالِ الحياة اليومية . ولا يُمكِن أن تتحوَّل صَيرورةُ التاريخ إلى حالةِ خَلاصٍ مُستمرة في المُجتمع إلا بِصَهْرِ المعرفة في الهُوِيَّة ، وتَذويبِ التجارب الشخصية في الأفكار الإبداعية الجَمَاعية . وهذا مِن شَأنه تَطهيرُ البناءِ الاجتماعي مِن الوَعْي الزائف ، وتحقيقُ التجانسِ بين المضمونِ العميق لشخصية الفرد الإنسانية ، والبُنيةِ الجَذرية لعملية صِناعة الثقافة .
العقلُ الجَمْعي لا يَقْدِر على تَحويل مَنطِق اللغة الرمزي إلى هُوِيَّة مَعرفية للمُجتمعِ والتاريخِ ، إلا بتوظيف الوَعْي الواقعي في بُنية الفِعْل الاجتماعي، لأنَّ الوَعْي هو القُوَّة الدافعة للفِعْل. والوَعْيُ والفِعْلُ مُرتبطان بالتَّغَيُّرات النَّفْسِيَّة التي تَطْرَأ على حياة الفرد الداخلية والخارجية . وجميعُ هذه العناصر مُجتمعةً تُشَكِّل النسيجَ المعرفي، والتكوينَ الشُّعوري ، والتطبيقَ العملي . وبالتالي ، يُصبح المُجتمعُ شَبَكَةً مِن زوايا الرؤية المُتَنَوِّعَة والمُتكامِلة ، وحاضنةً للظواهر الثقافية ، والآلِيَّاتِ اللغوية القادرة على تفسيرها وتَوظيفها . وإذا صَارَ الواقعُ المُعَاش أداةً فِكرية للنهضة والإبداع ، فإنَّ التاريخ سَيُصبح رافعةً للوَعْي بِكُلِّ أشكاله وانعكاساته ، وهذا يُسَاهِم في السَّيطرة على المَعْنَى الوُجودي المُتَشَظِّي في العلاقاتِ الاجتماعية ، والمعاييرِ الأخلاقية ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تحرير الإنسان مِن ضَغطِ الاغترابِ الذاتي ، ومَأزِقِ الخَلاص الفَرْدي ، وقُيودِ الاستهلاكية المادية، وهَيمنةِ الآلَة على الطبيعة .
تحريرُ الإنسانِ تَجسيدٌ للهُوِيَّة الوجودية في السُّلطة المعرفية ، التي تُمثِّل مَنظومةً مِن الشُّروط الضرورية لإعادة إنتاج الإنساق الفلسفية في البناءِ الاجتماعي والبُنيةِ الثقافية ، مِن أجل بناء ماهيَّة الإنسانية على السِّيَاقات التاريخية القائمة على النَّقْد البَنَّاء ، ولَيس التقديس المَصْلَحي . والتاريخُ الحقيقي هو الكِيَان الواقعي الذي يَستطيع الصُّمُودَ في رُوحِ الزمانِ وجَسَدِ المكانِ اعتمادًا على قُوَّته الذاتية بلا إسناد خارجي ومصالح مُغْرِضَة . وكُلُّ تاريخٍ يَستمد وُجوده مِن عوامل خارجية دخيلة ، وأنماط تفكير استبدادية ، سَوْفَ يَتفكَّك ويَنهار بسبب التناقضِ بين الإدراك الحِسِّي والوَعْي الفَعَّال ، والتعارضِ بين الواقع المادي والتأويل اللغوي . ويجب أن يَكُون التاريخُ تَطَهُّرًا دائمًا مِن الأحلامِ المَكبوتة والأفكارِ المَقموعة ، وتَطهيرًا مُستمرًّا للعلاقات الاجتماعية مِن الوَعْيِ الزائف والوَهْمِ النَّفْعِي المَصْلَحي الذي يُكَرِّر ذَاتَه ، ويُعيد نَفْسَه وَفْق أشكال استهلاكية مادية تَضغط على ذاكرة الفرد ، وتُضعِف شخصيته ، وتَسْلُب حُرِّيته وإنسانيته ، وتُحَطِّم مَركزيته في الطبيعة والوُجود .
البناءُ الاجتماعي لَيس كُتلةً أسمنتية جامدة ، وإنَّما هو كَينونةٌ مُتماهية معَ مَنطِق اللغة الرمزي ، ومنظومةٌ مُتفاعلة معَ السِّيَاق التاريخي للفرد والمُجتمع ، ومنهجيةٌ مُندمِجة معَ عملية صناعة الوَعْي الفَعَّال . والبناءُ الاجتماعي يَمْزُج التجاربَ الشخصية بمصادر المعرفة،ويُحَوِّل العواملَ النَّفْسِيَّة إلى معايير أخلاقية قابلة للتطبيق على أرض الواقع ، مِمَّا يُنتج بيئةً خِصْبَةً مُلائمة للأفكار الإبداعية ، ويَدفَع باتِّجاه توليد ظواهر ثقافية مُلتصقة بتفاصيل الحياة ، وغَير مُنفصلة عنها ، ولا مُتعالية عليها ، فَتَصِير الثقافةُ _ الشَّعْبِيَّة والنُّخْبَوِيَّة _ حَلًّا عمليًّا للواقع الإنساني المأزوم ، ولَيْسَتْ جُزْءًا مِنه . وهذا يَستلزم أن يَكُون البناءُ الاجتماعي قادرًا على تجاوُز ذاته ، وتَجَاوُز عناصر البيئة المُحيطة به . وهذا التَّجَاوُزُ الدائم للذاتِ والمُحِيطِ يُؤَدِّي إلى تَوليد الأفكار الإبداعية بشكل مُستمر ، وكُلَّمَا تَوَلَّدَتْ أفكارٌ إبداعية ، انبثقتْ تأويلاتٌ جديدة للتاريخ ، مُستقلة بذاتها ، وغَير خَاضعة للأدلجة السِّيَاسية . وهذه التأويلاتُ لا تَخترع تاريخيًّا ذهنيًّا بعيدًا عن الواقع ، وإنَّما تَقُوم بدمج الهوامش معَ المركز، لِتَكوين صُورة شاملة بكل الزوايا والأبعاد ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تحليل دور الفرد في التاريخ باعتباره إنسانًا فاعلًا في الزمان والمكان ، وصانعًا للحَدَثِ ، ومُكْتَشِفًا للحُلْم ، ولَيْسَ شخصًا مَجهولًا بلا هُوِيَّة، وَمُسْتَلَبًا بلا شرعية ، ومنسيًّا بلا ذاكرة . إنَّ الفردَ مِثْلُ التاريخ ، كِلاهما يُجسِّد فلسفةَ الوجود في رحلة البحث عن المَعْنَى .