كرم نعمة يكتب لـ(اليوم الثامن):

وزيرة تهوي إلى الحضيض

لندن

هناك “نصف حقيقة” في الكلام المنتشر بوسائل الإعلام العربية عن التنوع السياسي في بريطانيا بعد صعود رؤساء حكومات ووزراء من أصول اسيوية ومسلمين في بريطانيا وأسكتلندا وإيرلندا، بعضه ينم عن جهل في قراءة ما يجري والاكتفاء بتكرار أخبار وكالات الأنباء المجردة من الحقيقة العميقة، فيما يمثل الغالبية من هذا الكلام استعراضًا بعيدًا عن الحدود الصارمة المسموح بها للديمقراطية البريطانية عندما يكون الآخر من أعراق أخرى “…”.
انتشار هذا الكلام محاولة لتبرير الفشل السياسي في عالمنا العربي بعد أن سادت المفاهيم الطائفية والقبلية التقسيمية وتراجع مفهوم الوطنية، فكل هؤلاء يريدون الوصول إلى فكرة جاهزة باتت تثير الملل لفرط تكرارها في القول “لأنهم ديمقراطيون في بريطانيا اختاروا رئيس حكومة مسلم ووزيرة داخلية ووزير مالية أسود ومن خلفية إفريقية أو آسيوية أو عربية، لا تنسوا أن عمدة لندن مسلم ورئيس الحكومة الأسكتلندية مسلم”!
لكن حقيقة الأمر تكمن في أن هؤلاء المسلمين أو الآسيويين يقدمون أنفسهم إلى الرأي العام البريطاني بطريقة “نحن منكم وليس منهم”!
ذلك ينطبق على ريشي سوناك الهندي الأصل عندما أصبح أول رئيس غير أبيض للحكومة البريطانية، إلا أنه رفع من منسوب الازدراء للمهاجرين بما فيهم الهنود أبناء جلدته.
أول انطباع خلّفه انتخاب حمزة يوسف على رأس الحزب الوطني الأسكتلندي هو أنه مسلم، بينما موقفه من تمرير القوانين المتعلقة بزواج مثيلي الجنس سبقته إلى رئاسة الحكومة!
خذ الاحتفاء “عن جهل” في الصحافة العراقية الذي رافق صعود ناظم الزهاوي إلى رئيس حزب المحافظين وتقلده منصب وزير الخزانة السابق في حكومة بوريس جونسون، بينما هو في حقيقة الأمر من بين كبار الفاسدين وجمع ما يقارب 1.6 مليون دولار من علاقات سمسرة وخدمات سياسية قدمها إلى رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني ورئيس العراق السابق برهم صالح.
الأشد من ذلك موقف وزيرة الداخلية البريطانية سويلا بريفرمان عندما أطلقت تصريحات مروعة بشأن المسلمين المهاجرين، دون أي استثناء أو محاذير، بأنهم معتادون على ممارسة الجنس مع الأطفال، ولديهم قيم ثقافية تتعارض تمامًا مع القيم البريطانية! بينما في حقيقة الأمر مثل هذه الجرائم ترتكب داخل كل المجتمعات ولا ينبغي أن يكون العرق والدين عائقًا للتحقيق في مثل هذا النوع من الجرائم. كما تريد أن توحي بذلك سويلا من دون أي محاذير أخلاقية. فقد خلص تقرير لوزارة الداخلية البريطانية في عام 2020 إلى أن معظم عصابات الاعتداء الجنسي على الأطفال تتكون من رجال بيض تقل أعمارهم عن ثلاثين عامًا.
مهما يكن من أمر فإن الصورة ليست كما يتم رسمها في صحافة عربية وكتابات تكرر المكرر الممل، عن السياسيين البريطانيين من أصول آسيوية أو مشرقية، بمجرد معرفة المواقف المروعة في لا أخلاقية بريفرمان حيال المسلمين، بنشر المزاعم الفارغة ولتقول “أنا من الغرب وليس من هناك”.
سويلا هي ابنة مهاجرين هنود كانوا يعيشون في أوغندا وتركوا إفريقيا في الستينات ليستقروا في بريطانيا. ولدت في لندن واندمجت في المجتمع البريطاني. لكنها لا يمكن في موقفها المروع هذا أن تبيّض بشرتها وهي تدخل المكان الخطأ في الحروب الثقافية السامة التي تفسد العلاقات بين المجتمعات والأديان.
تعتقد سويلا أن عرقها الهندي وهي تزدري المسلمين من دون استثناء يمكن أن يوفر لها الحماية لفترة طويلة، أو يجعل البريطانيين ينظرون إليها بعين الرضى. لكنها واجهت حملة قوية رافضة لطريقة التفكير العنصرية التي تشدقت بها، عندما طالب أعضاء في حزب المحافظين بمحاسبة نواب الأقليات العرقية في البرلمان البريطاني بنفس الطريقة التي يحاسبون فيها البرلماني الأبيض. بما يتعلق الأمر بالعنصرية وازدراء المعتقدات والنظر بدونية إلى الآخر. فيمكن أن يكون السود والآسيويون عنصريين أيضًا.
رفض أعضاء في حزب المحافظين تصريحات وزيرة الداخلية، مؤكدين أن لغة بريفرمان ليست جزءًا من استراتيجية انتخابية مدروسة لإذكاء الخوف والغضب لدى المجتمع المسلم في بريطانيا. ونحن كمتابعين نريد أن نصدق هذا الكلام، ونترقب أن يكون صحيحًا وفق سعيدة وارسي أول مسلمة عملت في مجلس الوزراء البريطاني. ومع ذلك، لا يهم ما إذا كان هذا الاستخدام المتسق للخطاب العنصري الذي تفوهت به وزيرة الداخلية البريطانية، هو إستراتيجية أو عدم كفاءة من قبلها. لكنه في النهاية يظهر أنها ليست جديرة لشغل منصب رفيع في الحكومة البريطانية.
فأولئك الذين يتذرعون بالدفاع عن “حرية التعبير” التي يحق لهم أن يقولوا ما يشاءون، يفتقدون إلى الهدف الحقيقي الكامن في حرية التعبير، فالتعليق مجاني، لكن الحقائق مقدسة. وذلك ما افتقدت له الوزيرة البريطانية.
فانتقاد لغة بريفرمان العنصرية حيال المسلمين لا يتعلق بإغلاق نقاش مهم حول السياسة، أو تباين الحساسيات الثقافية في المجتمعات، لكن الأمر متعلق بكلام وزيرة داخلية مطالبة بأن يكون كلامها من الدقة بمكان على أن يستند إلى الحقائق والأدلة، وهو ما فشلت بريفرمان في القيام به عندما هوت إلى الحضيض.