سمير عادل يكتب لـ(اليوم الثامن):
صراع العسكر على مذبح الانتفاضة في السودان
الصراع الدموي المحتدم بين العسكر في السودان، تدفع ثمنه الانتفاضة الجماهيرية التي أطاحت بنظام البشير المدعوم من الإخوان المسلمين، وانهت عمر الحكم المزدوج القومي-الإسلامي الذي وظف كل مقدرات المجتمع من أجل فرض السيطرة على السلطة عبر الحروب والمعتقلات والسجون وبيوت الاشباح وافقار الغالبية العظمى من جماهير السودان.
المعضلة الاصلية في المشهد السياسي في السودان، ليس مرده إقامة سلطة مدنية، وان تحققت لكن يبقى اساسها خاويا، كما شاهدنا في ٢٥ أكتوبر عام ٢٠٢١ الذي نقل ابطال المشهد المدني او السلطة المدنية الى المعتقلات، ومن حالفه الحظ فُرضت عليه الإقامة الجبرية كما حصل لعبد الله حمدوك رئيس الوزراء المدني، انما المعضلة تكمن في البنية السياسية للطبقة البرجوازية، حالها حال العديد من بلدان الشرق الأوسط وإفريقيا واسيا، التي تحل أزماتها السياسية والاقتصادية عبر ترحيلها عن طريق الانقلابات العسكرية.
وتعتبر المؤسسة العسكرية وهو الجهاز القمعي للبرجوازية هي الممثلة السياسية لتلك الطبقة التي تتدخل كلما لزم الأمر من معضلات اقتصادية وسياسية التي تواجه مجتمعاتها.
واذا استطاعت البرجوازية من تحقيق الاستقرار السياسي في العديد من البلدان، وأصبحت الانقلابات العسكرية لا ترد على معضلة البرجوازية وازماتها، مثل الأرجنتين والبرازيل وتشيلي واندونيسيا والفلبين وتركيا التي عاشت في حقبة الحرب الباردة ابان القرن الماضي على سبيل المثال، وباتت المؤسسة العسكرية خارج المعادلة السياسية، الا أنها أي تلك المؤسسة احتفظت في بلدان أخرى بنفس الجاذبية القديمة، وأدغمت بالمؤسسة السياسية، وهي تأخذ زمام المبادرة في احتواء الازمات الثورية مثلما حدثت في مصر وتونس واليمن والسودان بعد ما سمي عنوة بالربيع العربي، او في عدد من البلدان الافريقية.
جميع الاجنحة المتصارعة داخل الطبقة البرجوازية في السودان، سواءً الذين يمثلون المدنيين من (قوى الحرية والتغيير) او المؤسسة العسكرية تغط في ازمة عميقة، ولم يملك أي طرف من هذه الاطراف، البديل السياسي أو حل أو أية رؤية سياسية، وبالرغم أن المؤسسات المالية الغربية حاولت مساعدة العسكر وإنقاذ سلطتها عبر منحها القروض طبعا بشروطها، إلا أن الطرفين لم يثقوا ببعضهما، وخاصة أن المؤسسة العسكرية، بقيادة عبد الفتاح البرهان أراد حسم مصير السلطة السياسية بالانقلاب العسكري، وإعادة سيناريو مصر، بيد أنها منيت بفشل كبير، وهي ما عمقت من الازمة داخل ذلك الجناح، أي الجناح العسكري، و دفعت هذه المرة قوات الرد السريع وتعتبر مليشيات الجنجويد العمود الفقري لها، بالمحاولة لاسترداد زمام المبادرة، واستغلال السمعة السيئة والجرائم التي ارتكبها الجيش بقيادة البرهان ضد السلطة المدنية، ورفع شعار إعادة السلطة الى المدنيين والانتفاضة او الثورة السودانية، والمعروفة ان تلك القوات قتلت المئات من الجماهير السودانية بُعيد الإطاحة بالبشير ورمت بجثثهم في نهر النيل، وكانت أداة فعالة في تصفية خصوم نظام عمر البشير.
أي بعبارة أخرى ان عدم قدرة الجيش السوداني بإلحاق الهزيمة بالانتفاضة بشكل نهائي وحسم مصير السلطة السياسية، هو وراء انشقاق المؤسسة العسكرية ونشوب حرب ضارية بين أطرافها. وتشير المعطيات المادية من خلال المشهد السياسي ان أمد الحرب الطاحنة سيستمر، حيث ان اغلب الدول التي لها نفوذ في السودان مثل الصين وفرنسا وبريطانيا والمانيا وتركيا بدأت بإجلاء رعاياها، وان السفارة الامريكية أغلقت أبوابها بعد اخلائها من جميع الدبلوماسيين الذي يقدر عددهم بمائة شخص، وهذا يعني ان رياح سموم ساخنة ستهب على السودان وأن أياما حالكة ستمر على الجماهير السودانية التي قدمت التضحيات من اجل رغيف خبز وقدر من الحرية والكرامة الإنسانية.
وعندما تتحول (الدولة) بالمعنى المطلق للمقولة الى (دولة فاشلة)، ستتحول الجغرافية التي تحميها وتمثلها الى منطقة حرة ولكن ليس بالمعنى الاقتصادي والتجاري ، إنما بالمعنى السياسي والعسكري الى منطقة تتنافس عليها الأقطاب الدولية.
وفي داخل السودان أو في الدول التي تحيطها هناك قواعد عسكرية مثل الولايات المتحدة الامريكية وفرنسا في جيبوتي وروسيا والصين في دارفور وهناك اليابان..الخ. وكل واحدة من تلك الدول ستدعم جماعة ما بحثا عن النفوذ والمصالح السياسية، وخاصة تشهد القارة الافريقية صراع محتدم بين روسيا وأمريكا والصين وفرنسا. والمشهد الاولى يبين بقدر ان الجيش السوداني مدعوم من مصر وأمريكا وفرنسا، بنفس القدر إن قوات الرد السريع بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي مدعوم من قوات فاغنر الروسية ودولة الإمارات. وهذا يكشف الصفحات الأولى التي ستنعكس على المشهد السياسي والعسكري خلال الأيام المقبلة.
ان سيناريو اليمن وليبيا وسورية يعاد من جديد في السودان، وهذه هي البرجوازية التي اختبرت وتعلمت الدرس، فعندما تتأخر الطبقة العاملة والقوى الثورية التي كانت لها تمثيل في جبهة قوى الحرية والتغيير وفي (لجان المقاومة)، بعدم مد اليد الى السلطة، فعليها إعداد نفسها لسوقها عنوة الى المقصلة والمسالخ التي تعدها لهم البرجوازية للإطاحة برأس الانتفاضة، وعملية المقايضة تطل براسها من جديد، حيث تقايض البرجوازية الجماهير بالأمن والأمان مقابل الخنوع والخضوع لسلطة استبدادية والعيش بالفقر والعوز مع ابقائها على قيد الحياة.
انها درس البرجوازية في التاريخ الحديث، وعلى الحركات الثورية وخاصة العمال الذين هم اول الأطراف تدفع ثمن هزائم الانتفاضات والثورات باهظا ان تتعلم ذلك الدرس.