هيثم الزبيدي يكتب:
صلاتان في الدوحة: فرصة قطر للانسحاب من ورطة حماس
لم تتطابق تعليقات مراسلي الفضائيتين القطريتين الجزيرة والعربي من خارج جامع الإمام محمد بن عبدالوهاب في الدوحة مع الصورة التي تم بثها من داخل المسجد. كان المراسلون يقولون إن أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني والأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، قد حضرا صلاة الجنازة التي أقيمت على جثمان رئيس حركة حماس إسماعيل هنية. لكن الصورة التي بثتها الفضائيتان كانت تختلف بعض الشيء. للدقة كانت ثمة صورتان مختلفتان، ناورت القناتان في البداية بينهما باستخدام إشارة “قبل قليل” في ركن الصورة، أي ليست نقلا حيا. لماذا صورتان لمشهد واحد؟ لأنه ليس مشهدا واحدا، بل مشهدان.
الصورة الأولى كانت تجمع أمير قطر الشيخ تميم مع شخصيات فلسطينية وضيوف. كانت الصورة، لو ركزنا على طبيعة الصوت المرافق وحركة المصلين، لمشهد صلاة الجمعة والخطبة والدعاء المعتاد في مثل هذا اليوم من الأسبوع. مشهد الصلاة المرافق للأمير الوالد الشيخ حمد، من سجود ودعاء، يبين بما لا يدع مجالا للشك أنه كان لصلاة الجمعة. بعض الصور التي انتشرت سريعا عبر منصة إكس في الدقائق التي سبقت بث القناتين لصلاة الجنازة، جعلت متابع القناتين يشك في أنها قد تكون مركبة وليست من مكان واحد. فالصور تقول إن الأمير والأمير الوالد موجودان في الجامع. كان الأمير بلا عقال، بينما وضع الأمير الوالد كمامة على أنفه. والمشهد الذي بثته القناة لصلاة الجنازة كان خاليا من الأمير والأمير الوالد وكبار القوم في قطر.
السبب أن هناك صورة ثانية هي صورة صلاة الجنازة التي يظهر فيها خالد مشعل وغيره من كبار قادة حماس وهم يؤدون الصلاة التي تقام وقوفا وبتتابع لا سجود فيه، وبقراءة سور وشهادة ودعاء تختلف عن الصلاة المعتادة. لا أثر للأمير الشيخ تميم أو والده أو أي شخصية من الشخصيات القطرية المعروفة في تلك الصورة.
الإعلام القطري سيستمر في تمجيد سيرة إسماعيل هنية، لكن القطريين لن يضيعوا فرصة وفرها لهم نتنياهو للتخلص من عبء ومسؤولية حماس
في تعديل لقطات مر عليها المونتاج وبثت على السريع وتمت التغطية عليها بكلام من المراسلين الذين يقفون خارج الجامع، حاول المخرجون الإيحاء بوجود ازدحام عند رفع الجثمان والخروج به من الجامع. لا شك أن المشهد كان سيمر بسهولة لولا الطول الفارع للأمير الشيخ تميم الذي يمكن تمييز وجوده بسهولة. الأمير غير موجود أثناء صلاة الجنازة وأثناء خروج الجثمان من الجامع. اللقطات الممنتجة التي وزعت على إكس أكثر من اللقطات الطبيعية، كان التقطيع بين اللقطات أكثر من واضح، وعجز المونتير عن الإتيان بتسلسل يجمع بين مشهد الأمير الذي يجلس مستمعا لخطبة الجمعة ومشهد اختفائه من لقطات صلاة الجنازة والتشييع. لا أثر لحضور الأمير الجنازة، لا في وكالة الأنباء القطرية ولا في المواقع القطرية “الرسمية” على منصة إكس.
قطر، بحرصها على عدم إظهار الأمير الشيخ تميم في مشهد وهو يصلي على جثمان زعيم حماس إسماعيل هنية، إنما كانت تريد تحقيق غايات مختلفة.
الإسرائيليون لم يخفوا مسعاهم لطلب الثأر ممن يرونه كان عونا لحماس ومكنها من تمويل وتنفيذ عملية “طوفان الأقصى”. قطر ذُكرت بالاسم، ولعل ما يحول دون الإشارة إليها الآن بشكل مباشر هو دورها في الوساطة من أجل إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين لدى حماس في غزة. في يوم قادم ستقوم صورة أمير قطر، وهو يصلي على جثمان رئيس حماس الذي اغتالته إسرائيل، بدور دليل الإدانة ومبرر الانتقام. سيكون المحتجزون الإسرائيليون قد عادوا إلى بيوتهم أو تم تسليم جثامين من قتل منهم، وستكون إسرائيل قد استمرت في حربها على الفلسطينيين وقياداتهم، في غزة والضفة وحيثما يكونوا.
القطريون تفننوا على مدى العقود الأخيرة في استخدام الآخرين ثم الاستغناء عنهم طالما انتفت الحاجة إليهم. كانوا يريدون نقل القواعد الأميركية من السعودية إلى قطر، فتقربوا من الأميركيين من بوابة الصداقة مع الإسرائيليين. التطبيع خارج نطاق دول المواجهة، وتحديدا مصر والأردن، إنما انطلق من قطر. تقاطر المسؤولون الإسرائيليون على الدوحة، وأثثت قناة الجزيرة شاشتها بالمسؤولين والخبراء الإسرائيليين الذين هم أول الذين أطلوا على المشاهد العربي من شاشة الجزيرة. وما إن تحقق المراد وانتقل الأميركيون بقواعدهم إلى السيلية والعيديد، حتى انقلب القطريون على الإسرائيليين وناصبوهم العداء الإعلامي من دون مبالغة في العداء السياسي. كان أوان الإخوان وحماس وحزب الله قد حان، وصارت الدوحة مقرا للتنظيم الدولي ولحركة حماس، فيما تغنت الجزيرة بصمود بشار الأسد وحزب الله (في وجه أشباه الرجال في السعودية على حد توصيف الأسد). ثم انقلبوا على الأسد وحزب الله، وراهنوا على تركيا وأوهموا رجب طيب أردوغان بأنه سلطان المسلمين، للوصول إلى غايات متشعبة وجدت في الربيع العربي فرصة. تحقق الكثير من هذه المراهنة في مصر واليمن وسوريا وتونس، ثم تماسكت جبهة الاعتدال وردت. تصالح القطريون مع الإقليم، فخف الاهتمام بالإخوان وتراجعت مكانة أردوغان، لكن حماس بقيت الحركة المفضلة لديهم. لا صوت يعلو على صوت الفلسطينيين وقضيتهم، وبوسع من يتبناها أن يسوق أي شيء. المشكلة هي دخول الهاكر الإيراني على الخط، والذي انتزع القرار الفلسطيني من يد قطر، وجعله بيد المرشد الأعلى. لا نعرف بالضبط كم كان القطريون يعرفون عن عملية “طوفان الأقصى”، لكنهم أدركوا منذ اليوم الأول ورطتهم مع حماس. حان وقت التخلي عن حماس.
القطريون تفننوا على مدى العقود الأخيرة في استخدام الآخرين ثم الاستغناء عنهم طالما انتفت الحاجة إليهم. كانوا يريدون نقل القواعد الأميركية من السعودية إلى قطر، فتقربوا من الأميركيين من بوابة الصداقة مع الإسرائيليين
لكن قبل التخلي عن حماس، كانت ثمة مرحلة مهمة وهي مرحلة الوساطة. لا يزال ثمة الكثير مما يمكن تحقيقه في الظهور بمظهر الوسيط الشريف أمام الأميركيين، والوسيط الذي لا بديل عنه أمام الإسرائيليين. كان الإسرائيليون يتفاوضون مع حماس من خلال قطر، لكن القطريين يعرفون ما يضمره الإسرائيليون وخصوصا رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. الوقت إذًا في صالح القطريين. الهدف من المفاوضات هو شراء الوقت (على طريقة الحكاية التراثية: إما أن أموت أو الحمار يموت أو الملك يموت). الإبقاء على حماس في الدوحة ورقة لم يحن الوقت للتخلص منها. وتم إتقان لعبة التفاوض إلى درجة أن ألعاب الهاكر الإيراني، من خلال حزب الله، كانت تبدو بعيدة عما يحدث في الدوحة أو القاهرة.
“الملك” نتنياهو كان لديه خطته قبل أن “يموت” سياسيا كما كانت الدوحة تمني نفسها. فوجه ضربتين مربكتين، الأولى في بيروت بقتله ثاني أهم شخصية في حزب الله، والثانية في طهران بتنفيذ عملية اغتيال مربكة للجميع بتصفيته زعيم حماس. كان أول رد فعل قطري بعد الإعلان عن اغتيال هنية هو أن “لا معنى للمفاوضات” و”أنك لا تقتل المفاوض وأنت تتفاوض معه”. انتهت ورقة المفاوضات وحان الوقت للتخلي عن وجود حماس في الدوحة.
الإخراج السيء للمشاهد التلفزيونية بين صلاة الجمعة وصلاة الجنازة في الدوحة كان دليلا على الارتجال في محاولة العثور على صيغة يكون فيها الأمير الشيخ تميم حاضرا وغير حاضر في جنازة هنية. لم يعط نتنياهو الدوحةَ ما يكفي من الوقت للتهيؤ لمثل هذه المشاهد. لكن ما حدث إنما يشير إلى أن القطريين، كما هم دائما، يلقون بالورقة المحروقة على وجه السرعة ويتحركون إلى وضع آخر. ذهب الإسرائيليون بعد مرور يومين على اغتيال هنية إلى القاهرة بضغط من الأميركيين، لكنهم لم يجدوا القطريين هناك. عادوا كما أتوا، لأن لا شيء لدى المصريين يمكن أن يقدموه.
سيستمر الإعلام القطري في تمجيد سيرة إسماعيل هنية، لكن القطريين لن يضيعوا فرصة وفرها لهم نتنياهو للتخلص من عبء ومسؤولية حماس. شهدنا صلاتين في الدوحة؛ واحدة صلاة الجمعة بحضور الأمير، والأخرى صلاة جنازة حماس في الدوحة.