محمد أبوالفضل يكتب:

العودة إلى المربع صفر بين مصر والدبيبة

تعامل رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها في طرابلس عبدالحميد الدبيبة مع زيارة غريمه رئيس الحكومة الموازية في بنغازي أسامة حماد إلى مصر أخيرا بقدر عال من العصبية السياسية التي تؤكد شعوره بأن البساط ينسحب من تحت قدميه، فاستقبال رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي لحماد بنفس الطريقة التي استقبل بها الأول الدبيبة قبل حوالي شهر يشي بعدم حدوث تغيير في مسألة الاعتراف بحكومته وأن الاستقبال الذي حظي به في القاهرة لا يعني أن العلاقة استقرت معها.

يبدو أن فصلا جديدا قاسيا في العلاقة بين مصر وحكومة الدبيبة بدأت ملامحه عقب زيارة أسامة حماد إلى القاهرة، حيث أكد مجلس النواب الليبي بعدها عدم وجود حكومة شرعية أخرى غيرها في البلاد، ما يعني أن حكومة طرابلس تواجه عقبات وأزمات صعبة يمكن أن تعصف بهياكلها السياسية والأمنية، وقد لا تجد من يقفون إلى جانبها صراحة، وهو ما جعل الدبيبة يشعر بقلق مضاعف ممّا تخبئه له الأيام المقبلة، وعليه أن يخوض جولة قاسية من التحديات، أو يستسلم وينسحب من المشهد بسلام.

بالغت بعض القوى الوطنية قبل أيام في الاحتفال بالذكرى الرابعة والثمانين لتأسيس الجيش الليبي، كنوع من التأكيد على أهمية الدور الذي يلعبه الجيش في الحفاظ على وحدة الدولة وأمنها واستقرارها، ما يعزز القناعة المصرية بأهمية التعجيل باستكمال خطوات توحيد المؤسسة العسكرية، وتقريب المسافات بين القوى الوطنية، واختيار رئيس جديد لحكومة الوحدة، وإجراء الانتخابات المؤجلة، ومن ثم طي صفحة الدبيبة.

رئيس الحكومة المنتهية ولايتها في طرابلس بات على وشك أن يغرّد وحده بعد فرار من راهن عليهم في الداخل والخارج، وانفتاح الكثير من القطاعات الوازنة في الشرق والغرب والجنوب على مصر ودحض فكرة انحيازها إلى المنطقة القريبة من حدودها

وكشف تجدد الاشتباكات بين عدد من الميليشيات قبل أيام عن صعوبة السيطرة عليها من قبل الحكومة المنتهية ولايتها، والتي لم يستفد رئيسها من عبر حكومات سابقة ودروسها، ورهن مصيره بالتحالف مع قادة فصائل مسلحة من خلال إيجاد شبكة مصالح واسعة معهم، اعتقادا منه أنهم قادرون على حمايته واستمراره على رأس الحكومة لأطول فترة ممكنة، لكن المأزق الذي يعيشه يشير إلى أن حماية المواطنين أقوى وأهم من حماية الميليشيات، حيث بدأت الكتل الشعبية في موطن نفوذه تنفض من حوله، وأصبحت مصراتة التي كانت تمثل أهم داعم له في طليعة الرافضين لسياساته.

حاول عبدالحميد الدبيبة التغطية على تضارب السلطات بالتشويش على لقاء رئيس الحكومة المصرية مع أسامة حماد، وافتعال مشاكل جانبية ربما يخفف بها وطأة الأزمات التي يعاني منها، وأراد أن يستقطب تعاطف قوى دولية معه، ويوحي أن القاهرة تطبق سيناريو يستهدف عزله، وتتحالف مع قوى في الشرق على حساب الغرب في ليبيا، متغافلا عن التطورات التي حدثت خلال الفترة الماضية وقادت إلى انفتاح القاهرة على جميع القوى ودحض فكرة المتاجرة بتفرقتها بينها.

تحرص السلطة في طرابلس على خلط الأوراق بما في ذلك التضحية بالمجلس الأعلى للدولة وإثارة مشكلات داخله بعد انتخابات قادت إلى تفوق خالد المشري على محمد تكالة، وبث فكرة أن قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر تحرك نحو غرب ليبيا للسيطرة على غدامس، مع أن غرضه المعلن تطويق العناصر الإجرامية في منطقة نفوذ الجيش الذي يسيطر على 75 في المئة من التراب الليبي.

ونكأ الاقتتال المتكرر بين عدد من الميليشيات في طرابلس وعلى تخومها جرح استمرار أنشطتها غير المشروعة ورعايتها من قبل شخصيات تتولى مناصب قيادية، وعودة الحديث عن ضرورة إنهاء هذه الظاهرة التي تعيق أيّ تطور إيجابي في ليبيا.

ودخل رئيس الحكومة المنتهية ولايتها معركة وعرة مع رئيس المصرف المركزي الصديق الكبير ولم يدرك تداعياتها السلبية عليه، إذ تلقى الكبير دعما لافتا من المبعوث الأميركي إلى ليبيا ريتشارد نورلاند أخيرا عزز مكانته، فضلا عن تحذير مباشر من أن أيّ محاولة لاستبداله بالقوة قد تؤدي إلى فقدان ليبيا الوصول إلى الأسواق العالمية، وما لم يقله المسؤول الأميركي أن البيانات الحقيقية للإنفاق السخي على بعض الميليشيات والرشاوى ومظاهر الفساد الرسمية ستكون أمام العالم كله في لحظة واحدة.

السلطة في طرابلس تحرص على خلط الأوراق بما في ذلك التضحية بالمجلس الأعلى للدولة وإثارة مشكلات داخله، وبث فكرة أن قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر تحرك نحو غرب ليبيا للسيطرة على غدامس

قد يكون الدبيبة هدف من وراء افتعال أزمة مع مصر حرف الأنظار عن معاناته، الاقتصادية والأمنية والعسكرية والسياسية، بعد انفضاض الكثير من القوى التي راهن عليها من حوله، لكن الأهم أنه أراد وقف تحركات اختيار رئيس توافقي جديد لحكومة موحدة، يدير البلاد من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، والتشويش على تصورات تسعى لإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وهناك استعدادات لإتمامها بطريقة تضمن الخروج من أزمة يستثمر البعض من القادة سياسيا في استمرارها.

ويقوم الليبيون أنفسهم باختيار رئيس حكومة موحدة، وليس أيّ طرف خارجي، ولعل فتح باب الترشح لمنصب رئيس الحكومة في مجلس النواب مؤخرا يكرس الحق الليبي في ضبط المسار السياسي، واتخاذ القرار الذي يحظى بموافقة غالبية المواطنين.

وأظهر رئيس الحكومة المنتهية ولايتها أن تشدقه بالشرعية عملية مشكوك فيها، وكشف انزعاجه من زيارة أسامة حماد إلى مصر حجم مخاوفه من سعي القاهرة إلى ضبط بعض التوازنات المختلة، وما يمكن أن تفعله هذه التحركات من تغيير ملموس في المعادلة السياسية، فلم ينزعج من لقاءات أجراها حماد مع جهات دولية سابقا في بنغازي.

والمشكلة أن الكثير من القوى الوطنية في شرق ليبيا وغربها ضجت من استمراره على رأس الحكومة في طرابلس، وتتطلع إلى إنهاء الصدام بين القوى المتصارعة ووقف لعبة توزيع الأدوار التي أرهقت الدولة، تمهيدا لاختيار رئيس حكومة يستطيع التعامل مع التحديات التي يواجهها بلد يستنزف رئيس الحكومة المنتهية ولايتها مقدراته المادية من أجل البقاء في منصبه، ودون أن يستمع إلى معاناة شريحة كبيرة من المواطنين تشاهد ثرواتها يسلب منها جزء كبير لينفق على عدد من الميليشيات.

تحولت المتاجرة بتعدد السلطات في طرابلس إلى خطر على الدولة، فلا توجد جهة حاكمة قوية، والصراع على جبهات متعددة أرهق الدبيبة نفسه، ولم يعد الرجل قادرا على المضي قدما في التوفيق بين متناقضات عديدة، كل طرف يحاول الضغط عليه حتى فقد الكثير ممن ساعدوه على تفشيل مبادرات سعت للخروج من الأزمة عمليا.

بات رئيس الحكومة المنتهية ولايتها في طرابلس على وشك أن يغرّد وحده بعد فرار من راهن عليهم في الداخل والخارج، وانفتاح الكثير من القطاعات الوازنة في الشرق والغرب والجنوب على مصر ودحض فكرة انحيازها إلى المنطقة القريبة من حدودها، لأن كل ليبيا جزء لا يتجزأ من الأمن القومي المصري ويجب الحفاظ على وحدتها.