فاروق يوسف يكتب:
فلسطين تتحدث.. دعونا نلتزم الصمت إكراماً لحقهم
من حق الفلسطيني العادي أن يحلم بفلسطين من النهر إلى البحر. ذلك منطق الحياة الذي لا يملك أحد القدرة على إيقاف جريانه. من حق الناس أن يحلموا.
ذلك الحلم ليس قرارا سياسيا ولا ينطوي على أي خطر، لا على مَن يحلم ولا على مَن يستمع إلى تفاصيل ذلك الحلم. كفاءة ذلك الحلم تقع في شفافيته وكثافته في الوقت نفسه. وهو ما ليس غريبا على الفلسطيني.
حلم الفلسطيني ليس ثقيلا ولا مزعجا. إنه يشبه الأشياء الحية التي يعرفها عن طريق الحكاية. وهو طازج كما لو أنه يستجيب لفصول السنة مثل الزيتون والبرتقال.
ولو لم تكن السياسة لكان هناك فهم آخر للحلم الفلسطيني. يكمل الفلسطيني حكايته بالحلم ويكمل حلمه بالحكاية. وهو يعرف أن أرض الحكاية والحلم واحدة.
بعد كل القتل الذي تعرض له الفلسطينيون.. لا يزال الفلسطيني متمسكا بترف الحلم ورفاهيته وهو يعرف أن الذين يتآمرون عليه أو يسعون إلى احتوائه ووضعه في حقائبهم لم يتمكنوا من الاستيلاء على حلمه
ما لم نعرفه عن الفلسطينيين ونحن لا نعرف عنهم شيئا لا يمكن العثور عليه في أجندات الميليشيات والمنظمات المسلحة التي تتصدر المشهد الإخباري.
صار ثقيلا عليهم أن يكونوا مادة لا للأخبار وحدها، بل وأيضا للقتل الذي يصنع الأخبار. الخبر الفلسطيني هو خبر الموت. ذلك ما لن يرغب فيه شعب يحب الحياة.
ولو لم يكن يحب الحياة لما حافظ الشعب الفلسطيني على هويته التي اتفق العالم على محوها. قاومت الهوية الفلسطينية كل المحاولات الجبارة لإلغائها. لا وجود لكلمة فلسطين على الخارطة الدولية.
ولكن حلم الفلسطينيين في بلاد تمتد من النهر إلى البحر ظل مصدر أرق للعالم الذي طرد بلادهم من خارطته.
صحيح أن أجيالا نذرت نفسها للموت من أجل ذلك الحلم، غير أن الصحيح أيضا أن هناك أجيالا نذرت نفسها للحياة من أجل أن ترى ساحة ذلك الحلم وقد اتسعت على أرض الواقع. الموتى والأحياء كانوا واقعيين لكن ليس بالطريقة التي تهب السياسيين حق التصرف بالحلم.
وإذا ما كان قد خُيل للبعض أن الفلسطيني مشروع شهادة وهو التعبير الديني عن الموت فإن ذلك خيال مريض وخبيث ولا يمت بصلة إلى ما يحلم به الفلسطيني.
الفلسطيني يريد أن يعيش مزيدا من الحياة لكي يرى بلاده ويشم أزهارها وينصت إلى صفير الملائكة بين أزقتها ويلمس جدران مدنها العتيقة.
علاقة الفلسطيني بأرضه لا تقوم على الشهادة أو الموت، بل على الحياة. لا فائدة إن مات الجميع. ستكون فلسطين حية إذا ما كان شعبها لا يزال حيا. ليست فلسطين للموتى.
كل الذين يخططون لقتل الفلسطينيين في حروب لا علاقة لها بالحلم الفلسطيني إنما يرون أنهم لا يستحقون الحياة وأنهم عبارة عن حطب لنار لا تضيء مستقبلهم.
الحلم الفلسطيني لا يكذب. من النهر إلى البحر. تلك هي الحقيقة وتلك هي فلسطين. ولكن ذلك الحلم وتلك الفلسطين يجب أن يوضعا في المكان الذي يليق بهما.
من المؤلم أن يُصادر ذلك الحلم من قبل منظمات فلسطينية ومن المخزي أن تُعرض فلسطين في مزاد ترعاه قوى إقليمية لا تفكر إلا في التخلص من سكانها.
ما الذي تختلف إيران فيه عن إسرائيل حين تعرض الفلسطينيون للإبادة؟ يفكر الإسرائيليون في القتل ويفكر الإيرانيون في الشهادة. ما الفرق؟
ما لم نعرفه عن الفلسطينيين ونحن لا نعرف عنهم شيئا لا يمكن العثور عليه في أجندات الميليشيات والمنظمات المسلحة التي تتصدر المشهد الإخباري
الأهم هو ما الذي يفكر فيه الفلسطينيون؟ ما من شعب تألم مثلما تألموا. كان ألمهم ولا يزال عنوانا مزدوجا للظلم والصبر. لنتخيل الألم في صورة المفكر الذي يقول الحقيقة. ما من لغة يمكنها أن تتكلم في حضرة ذلك البركان.
حق الفلسطينيين علينا أن نصمت إذا ما تكلموا. كل هذا الضجيج الذي تصنعه الحروب والتظاهرات والمؤتمرات والمفاوضات من أجل ألّا يقول الفلسطيني كلمته. وهي الكلمة التي تلخص معنى الحرية.
لطالما سلبه الآخرون حقه في الكلام. غير أنهم لم يتمكنوا من الاستيلاء على حلمه الذي بقي غامضا عليهم. ذلك الحلم الذي تلخصه كلمة واحدة هي الحرية.
حرية أن يحلم تُخيف. ولكن هل يُخيف الحلم؟ يُخيف إذا ما امتد خيطا بين النهر والبحر. يُخيف إذا ما فضل الحياة على الموت. ويخيف إذا ما أعاد رسم خطوط العودة التي محتها الاتفاقات الدولية.
بعد كل القتل الذي تعرض له الفلسطينيون من دير ياسين إلى أيلول الأسود إلى صبرا وشاتيلا إلى غزة مرورا بكل المجازر التي لونت أرض فلسطين بلون الدم لا يزال الفلسطيني متمسكا بترف الحلم ورفاهيته وهو يعرف أن الذين يتآمرون عليه أو يسعون إلى احتوائه ووضعه في حقائبهم لم يتمكنوا من الاستيلاء على حلمه الذي لم يكن بندقية دائما.