هيثم الزبيدي يكتب:
محاولة اغتيال أم سيناريو مفبرك؟ من يصدق ومن يكذب الجزائري؟
أصل الحكاية يبدأ من ترويج يجري منذ أشهر لقصة أن الجزائر تتعرض لمؤامرة من قبل حلف “شرير”. هي حكاية لم تتوقف أي مؤسسة من المؤسسات الإعلامية الجزائرية عن الكتابة بشأن تفاصيلها. بل ساهم الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون نفسه في الحديث عنها. لسبب ما يعتقد أصحاب السلطة في البلاد أن هناك من يستهدفهم، كل لأغراضه.
انتشرت خلال الأيام الماضية تفسيرات لكتاب جزائريين على الشبكات الاجتماعية عن أسباب توقيف صحيفة “جزائر الغد” واتخاذ خطوات لإغلاقها ومحاسبة القائمين عليها. نشرت الصحيفة على صفحتها الأولى حكاية تستكمل حكاية المؤامرة، ولكنها ذهبت بها بعيدا لتصل إلى القول بأن الأمر ما عاد تفصيلا عاما، بل خطة لاغتيال الرئيس تبون نفسه. البعض قال إن القائمين على الصحيفة لم يفهموا الإشارات التي أطلقتها السلطة بعد يوم من انتهاء الانتخابات والإعلان عن فوز تبون بعهدة ثانية. صار من الصعب على الجزائري أن يفهم الفارق بين صور من تتهمهم الأوساط المطلعة بالتآمر على حياة الرئيس، كما أوردت الصحيفة، وبين صور لنفس القادة العرب والأجانب ممن احتفت بهم وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية، والموقع الرسمي للرئاسة على الإنترنت وفيسبوك، على اعتبار أنهم مِن أوائل من تقدموا إلى الرئيس تبون بالتهنئة على فوزه بالانتخابات. من يصدق الجزائري ومن يكذب؟ كان الرد حاسما، وتم توقيف عدد الصحيفة والبدء بإجراءات إغلاقها.
المسألة، بشكلها الافتراضي المبسط، هي سوء تقدير من إدارة تحرير الصحيفة. كانت المرحلة تتطلب الإيحاء بوجود تآمر على الجزائر وصل ذروته مع الانتخابات الرئاسية. لكن قد يكون الأمر أكثر تعقيدا، خصوصا بالنظر إلى أول إجراء اتخذه الرئيس تبون بعد أدائه اليمين الدستورية، عندما قرر الاستغناء عن واحد من أهم الضباط المتحكمين في ملفات الأمن وهو الجنرال جبار مهنا المدير العام للمديرية العامة للوثائق والأمن الخارجي (الاستخبارات الخارجية) وتعيين بديل عنه.
لا يحتاج الأمر إلى الكثير من التحليل للوصول إلى الربط بين ما يتم ترديده من حكايات عن التآمر على الجزائر والمديرية العامة للوثائق والأمن الخارجي. لو كان ثمة مؤامرات على الجزائر أو على حياة الرئيس، فإن أول إدارة حكومية تكون لها علاقة بالأمر هي مديرية الأمن الخارجي. المعلومة التي تم نسج فرضية التآمر على أساسها ثم خبر التخطيط لاغتيال الرئيس لا بد أن تكون في الأصل قد مرت على أعين ضباط جهاز الاستخبارات الخارجية.
المعلومة، وما اُستنتج منها والترويج لها على مدى أشهر، تبدو ضعيفة إلى درجة كبيرة. فلو أخذنا ما تناقلته الأوساط الجزائرية خلال العام الماضي من حكايات ومنها ما ألمح إليه الرئيس شخصيا في كلماته المتلفزة، نجد أنه لو تم تقليبها من قبل مبتدئين في صناعة الاستخبارات لتوصلوا إلى أنها غير واردة.
ما مصلحة دولة مثل الإمارات في استعداء الجزائر والتآمر عليها؟ الإمارات اتخذت قرارا سياديا بالاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه. ثم ما مصلحة فرنسا التي تستقبل أعلى قيادة في الجيش الجزائري بكل حفاوة؟
سنضع ورود اسم المغرب جانبا، لأن معاداته وصلت إلى درجة أنه أصبح من السهل على القيادة الجزائرية أن تتخذ قرارات تضر بمصالح الجزائر نفسها، مثل إيقاف ضخ الغاز عبر المغرب، فقط لتزيد من حدة العداء. إلى حد الآن لا يريد القائمون على شأن العلاقة مع المغرب الرد على تساؤلات مشروعة مثل “ما مصلحة المغرب من تفكيك السلطة في الجزائر، بمحاسنها وعيوبها؟” و”هل سيكون المغرب أكثر أمنا لو انهارت -لا سمح الله- السلطة في الجزائر وتفككت، وتكون النتيجة دولة منفلتة الأمن بكوارث يصغر حيالها ما شهدناه في ليبيا مثلا؟”.
ما مصلحة دولة مثل الإمارات في استعداء الجزائر والتآمر عليها؟ الإمارات اتخذت قرارا سياديا بالاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه (وهي بالمناسبة أرض حتى الجزائر لا تدعي أنها تابعة لها لكي يصل بها الأمر إلى كل هذه العدوانية تجاه الإمارات). ثم ما مصلحة فرنسا، التي تستقبل أعلى قيادة في الجيش الجزائري بكل حفاوة وتنسق معها أمنيا وعسكريا؟
ولعل أطرف ما في حكاية المؤامرة هو موضوع اشتراك إسرائيل فيها. لا يوجد ود بين الجزائر وإسرائيل بالتأكيد، لكن هل يصل الأمر بإسرائيل -التي تخوض حربا وجودية الآن على عدة جبهات- إلى حد تخصيص جزء من وقتها للتآمر على الجزائر؟ تصوروا اجتماعا لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو مع جهاز الموساد في ذروة الحرب في غزة والضفة وجنوب لبنان وسوريا، وفي عز الاحتكاك الكبير مع الحشد الشعبي في العراق والحوثي في اليمن والحرس الثوري في إيران، تصوروه يقول: “أما وقد انتهينا من مناقشة كيف سنقتل إسماعيل هنية ونعثر على يحيى السنوار ونتصيد قادة حماس وحزب الله صالح العاروري وفؤاد شكر وإبراهيم عقيل، نتحول إلى بند الإطاحة بالحكم في الجزائر واغتيال رئيسها”. ثم لماذا كل هذا؟ لأن الجزائر تتعاطف مع الفلسطينيين مثلا، أو لأنها أرسلت شحنة وقود يتيمة إلى محطة الكهرباء في لبنان؟
لو افترضنا أن ثمة مغرضين مرروا مثل هذه المعلومات إلى مديرية الأمن الخارجي في الجزائر، فإن أول ما ينتظر من هذا الجهاز هو غربلتها للتأكد من مصداقيتها، أو على الأقل تقديم معطى واحد إلى قيادة البلاد وأجهزة السلطة المختلفة، وخصوصا وسائل الإعلام، لترفقه كدليل يسمح لهم بتبني الحملة بهذا الشكل. لكن هذا لم يحدث بالتأكيد، واضطرت وزارة الاتصال إلى معاقبة الصحيفة التي “صدقت” حكايات التآمر. (فقط للتذكير فإن قضية توقيف مغاربة في ميناء يحاولون تهريب خراطيش صيد للتأثير على الانتخابات تَكرم الإعلام الجزائري بنسيانها).
لا نعرف بالضبط لماذا أقيل الجنرال جبار مهنا من مديرية الأمن الخارجي، وهل لموضوع التآمر علاقة أم لا. لكن من المؤكد أن القيادة في الجزائر ستسأل مديرية الأمن الخارجي عن قضية بالغة الأهمية والحساسية كانت قد مرت، على حد تعبير مراقب جزائري، من تحت أنف الأمن الخارجي من دون أن ينتبه لها، وهي قضية التغييرات الكبرى التي حدثت في منطقة الساحل والصحراء. اليوم أصبحت المنطقة وحدة سياسية عسكرية عقب توقيع ميثاق ليبتاكو – غورما من قبل بوركينا فاسو ومالي والنيجر، بعد أن غيرت هذه الدول أولويات تحالفاتها مع دول غرب أفريقيا من جهة ومع منظومة الغرب من جهة أخرى. الأمر لا يتعلق فقط بالاستغناء عن القوات الفرنسية المشاركة في قوة برخان، أو الطلب من القوات الأميركية حصر تواجدها في معسكر صغير، بل إن قوى كبرى بديلة بدأت تتواجد على نطاق واسع من دون أن تكون للجزائريين معرفة أو رأي في ما يحدث. بارتباك المعطيات التي يمكن أن يوفرها جهاز الاستخبارات والدبلوماسية الجزائرية معا، تواجه القيادة الجزائرية حقيقة أن تتواجد روسيا اليوم مع الصين وتركيا، بل وحتى إيران، في الساحل. بلغ الارتباك مداه حين عجزت الجزائر عن اتخاذ موقف مفهوم من التطورات، وما عادت تعرف هل هي مع بقاء الفرنسيين، القوة الاستعمارية المكروهة في الجزائر والمنطقة، أم مع انسحابهم، أو هل وجود فاغنر علامة صحية لعلاقتها مع روسيا أم لا؟ هل نسقت الجزائر مع الصديق رجب طيب أردوغان الوجود التركي هناك؟ وهل ما يحدث على الحدود الجنوبية بين الجزائر ومالي مشكلة حدودية أم مؤشرات على نزعة انفصالية أول بلد ستصيبه هو الجزائر؟
عندما بدأ الرئيس تبون عهدته الأولى، أكثر من التعيينات في مناصب سفراء فوق العادة كمستشارين رئاسيين مكلفين على وجه الخصوص بملفات الجوار الأفريقي. اليوم لا نذكر حتى أسماء هؤلاء المستشارين بعد أن طواهم النسيان مع توالي الخسارات السياسية والدبلوماسية الجزائرية في المنطقة. الآن يبدأ تبون عهدته الثانية ومن الواضح أنه يريد طي حكاية التآمر. لعل الوقت قد حان لأن يلتفت المعنيون إلى قضايا حقيقية تمس الأمن القومي الجزائري في عالم متقلب وسريع الحركة. لا بأس من البداية حيث مرت الأمور في الساحل من دون أن تثير الانتباه.