د. عبدالمنعم همت يكتب:

محاربة التطرف في الخليج: استراتيجية شاملة بين الأمن والفكر

محاربة التطرف في منطقة الخليج تمثل تحديا معقدا يتطلب الجمع بين الحلول الأمنية والفكرية والثقافية، وذلك نظرا للخصوصية الثقافية والاجتماعية والدينية التي تتميز بها دول الخليج. ورغم أن المنطقة تشهد استقرارا نسبيا مقارنة ببعض مناطق الشرق الأوسط الأخرى، إلا أن ذلك لم يعفها من خطر التطرف الذي يتسلل بطرق مختلفة إلى المجتمعات الخليجية.

بعض الحكومات الخليجية، منذ سنوات، اتخذت موقفا صارما إزاء التطرف، ووضعت أنظمة أمنية وتشريعات قانونية صارمة لمكافحة الإرهاب والتطرف. هذه الجهود تضمنت إنشاء وحدات أمنية خاصة، وإقرار قوانين رادعة ضد كل من يشارك في أعمال إرهابية أو يروج لأفكار متطرفة. وقد حققت هذه الإجراءات الأمنية نجاحات ملموسة في الحد من نشاطات الجماعات المتطرفة في المنطقة، حيث تم إحباط العديد من المخططات التي كانت تستهدف الأمن والاستقرار في دول الخليج.

 التعليم، الفلسفة، الإعلام، والمؤسسات الدينية يجب أن تكون في طليعة الجهود الرامية إلى بناء مجتمع خليجي أكثر وعيا وفكرا، قادر على مقاومة التطرف وإحباطه من جذوره

ورغم النجاح الملحوظ في هذا المجال، يبقى السؤال الأكبر هو كيف يمكن معالجة جذور التطرف وليس فقط التعامل مع نتائجه الظاهرة؟ هنا يأتي دور المواجهة الفكرية، وهي الجبهة التي تتطلب جهدا كبيرا على مستويات التعليم، الثقافة، والإعلام. في الواقع، التعويل على الحل الأمني وحده قد لا يكون كافيا لضمان استئصال التطرف بشكل دائم، لأنه لا يمكن القضاء على الفكر المتطرف بالقوة وحدها، بل ينبغي أن يكون هناك جهد مجتمعي شامل لتفكيك هذا الفكر من خلال توجيه العقول نحو الاعتدال والتسامح.

في هذا السياق، لعبت بعض دول الخليج مثل الإمارات والسعودية دورا رياديا في تعزيز الفكر الوسطي والتسامح من خلال إطلاق حملات إعلامية وبرامج تعليمية تروج للاعتدال والتعايش السلمي بين الأديان والثقافات. كما تم إنشاء مراكز متخصصة لمكافحة الفكر المتطرف، تعمل على نشر الوعي بمخاطر التطرف الفكري والديني، وتقديم تفسيرات وسطية للنصوص الدينية التي غالبا ما يُساء تفسيرها من قبل الجماعات المتطرفة.

مع ذلك، فإن تعزيز الوسطية وحده قد لا يكون كافيا، نظرا لأن الجماعات المتطرفة لديها قدرة عالية على الدخول في سجالات فكرية وإثارة الجدل حول مصطلح الوسطية نفسه. فبعض هذه الجماعات يلجأ إلى استخدام النصوص الدينية لتبرير مواقفه المتشددة ويهاجم الوسطية باعتبارها تخاذلا أو انحرافا عن “الصراط المستقيم”. لذا، يبقى التحدي الأكبر في تعزيز قدرة المجتمع على التفكير النقدي ومقاومة الأفكار المتطرفة من جذورها.

في هذا الإطار، يأتي دور التعليم والتنشئة الفكرية السليمة كعامل حاسم في مواجهة التطرف. تحتاج المؤسسات التعليمية في الخليج إلى التركيز بشكل أكبر على تدريس مهارات التفكير النقدي والتحليلي، التي تمكن الطلاب من تقييم الأفكار والمفاهيم بأنفسهم، وعدم قبول الأفكار الجاهزة أو المعلبة دون تمحيص. التفكير النقدي يساعد الأفراد على التمييز بين الأفكار البناءة والأفكار الهدامة، ويعزز قدرتهم على التصدي للتأويلات المتشددة للنصوص الدينية. ومن المهم إدخال الفلسفة كمادة أساسية في المناهج الدراسية، ليس فقط لكونها تساعد في تعزيز التفكير النقدي، بل لأنها تشجع أيضا على التساؤل والبحث عن الحقائق بشكل مستقل. الفلسفة تعلّم الفرد كيف يشكك في المسلمات ويفهم النصوص في سياقها الصحيح، وهو ما يعتبر أحد أكبر التهديدات التي تواجه الأيديولوجيات المتطرفة التي تعتمد على الجمود الفكري والإملاءات الدوغمائية.

معظم الجماعات المتطرفة ترفض الفلسفة بل وتهاجمها بشدة، لأنها ترى فيها خطرا كبيرا على أفكارها. التفلسف يعني استخدام العقل والتفكير في الأمور بشكل عميق، وهو ما يتعارض مع النزعة الدوغمائية التي تحاول هذه الجماعات فرضها على أتباعها. هذه الجماعات لا ترغب في أن يفكر أتباعها، بل تسعى إلى خلق مجتمع يعتمد على النقل والتقليد دون السؤال أو التفكر. لذا، فإن تعزيز الفلسفة في التعليم ليس مجرد تحسين للمنهج الدراسي، بل هو جزء من مواجهة التطرف على مستوى أعمق بكثير.

 بعض الحكومات الخليجية، منذ سنوات، اتخذت موقفا صارما إزاء التطرف، ووضعت أنظمة أمنية وتشريعات قانونية صارمة لمكافحة الإرهاب والتطرف

من ناحية أخرى، تتطلب محاربة التطرف في الخليج تعزيز دور المؤسسات الدينية المعتدلة التي يمكن أن تقدم بدائل فكرية للأفكار المتشددة. إن استغلال الدين لتبرير العنف والتطرف هو إحدى أدوات الجماعات المتطرفة الرئيسية، ولهذا السبب يجب أن يكون هناك تعاون مستمر بين المؤسسات الدينية والسلطات الحكومية في محاربة هذا النوع من الخطاب. دول مثل السعودية والإمارات قد خطت خطوات كبيرة في هذا المجال، من خلال إنشاء هيئات دينية تدعو إلى التسامح والاعتدال وتفكيك الحجج الفكرية التي يعتمد عليها المتطرفون.

علاوة على ذلك، هناك أهمية كبيرة لدور الإعلام في توعية المجتمع بمخاطر التطرف. الإعلام يمكن أن يلعب دورا قويا في نشر قيم التسامح والانفتاح وتعزيز الفهم الصحيح للدين. برامج وثائقية وحملات توعية، إلى جانب استضافة علماء ومفكرين متخصصين في قضايا الفكر المتطرف، يمكن أن تكون أدوات فعالة لخلق مجتمع واع وقادر على مقاومة الأفكار الهدامة. يجب أن يكون الإعلام جزءا من الحل وليس مجرد ناقل للأخبار، بل عليه أن يقدم محتوى يبني حصانة فكرية ضد التطرف.

إن محاربة التطرف في الخليج تتطلب إستراتيجية شاملة، تجمع بين الحلول الأمنية والفكرية والثقافية. لا يمكن الاكتفاء بإحباط المخططات الإرهابية أو تفكيك التنظيمات المتطرفة دون معالجة الأفكار التي تغذي هذه التنظيمات. التعليم، الفلسفة، الإعلام، والمؤسسات الدينية يجب أن تكون في طليعة الجهود الرامية إلى بناء مجتمع خليجي أكثر وعيا وفكرا، قادر على مقاومة التطرف وإحباطه من جذوره.