هاني مسهور يكتب:

نزوح غزة.. هل يوقظ الضمير العربي؟

المشاهد المؤلمة للنزوح المهين لسكان قطاع غزة لم تكن مجرد صور إنسانية عابرة، فلا يمكن اعتبار تلكم الألوف من الناس وهي تمشي متثاقلة وقد أنهكها الجوع والخوف مشهد انتصار.

بل هو مشهد يفطر القلوب حزناً ووجعاً ويشعل النفوس سخطاً على "حماس" وجماعات الإسلام السياسي التي قررت القيام بعملية "طوفان الأقصى"، تلك المشاهد هي مرآة تعكس حالة التناقض الحادة في العقل الجمعي العربي، حيث يشتعل الغضب الشعبي على وقع المأساة، بينما تبقى النخب السياسية والإعلامية في حالة جمود مريب، ما يحدث في غزة يكشف عن أزمة عميقة في العلاقة بين العاطفة الشعبية والواقع السياسي، وعن انهيار خطاب المقاومة الذي لطالما استُخدم كغطاء لتبرير مغامرات عبثية تقودها إيران تحت شعار الدفاع عن فلسطين.

العقل الجمعي العربي بدا كأنه يعيش حالة من الانقسام الحاد، فمن جهة، هناك موجة تعاطف شعبي عارمة مع سكان غزة، مشحونة بالعاطفة الإنسانية والمشاهد الدامية التي تهز الضمائر ومن جهة أخرى، يزداد إدراك الشعوب لحقيقة أن هذه الكوارث ليست إلا نتيجة لقيادات استثمرت في معاناة الفلسطينيين لخدمة أجندات إقليمية لا علاقة لها بالمقاومة الحقيقية.

لقد بات واضحًا أن خطاب المقاومة الذي تبنته إيران وحلفاؤها، ومن بينهم "حماس"، لم يعد يقنع الشعوب العربية، هذا الخطاب الذي كان يُروَّج له كدرع لحماية فلسطين، ظهر الآن عاريًا من أي مصداقية، بعد أن تحول إلى أداة في يد طهران لتحقيق نفوذها الإقليمي، وهنا يبرز السؤال الكبير: كيف يمكن للعقل الجمعي العربي أن يتحرر من أسر هذا الخطاب؟

الهجوم الذي شنته "حماس" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 كان مقامرة إيرانية كبرى، تهدف إلى خلط الأوراق في المنطقة وإعادة ترتيب المشهد السياسي بما يخدم مصالح طهران، لكن هذه المقامرة سرعان ما تحولت إلى كابوس للمحور الإيراني، الضربات الإسرائيلية الموجعة كشفت عن هشاشة هذا المحور الذي طالما ادعى أنه قادر على مواجهة إسرائيل.

ما أنجزته الثورة الخمينية في مشروعها الأيديولوجي التوسعي تكسر بضربات إسرائيلية وصلت لعمق إيران في اغتيال إسماعيل هنية وتصفية حسن نصر الله في جنوب لبنان، بل إن الهجمات الإسرائيلية طالت مواقع الحرس الثوري الإيراني وكشفت ضعف الدفاعات الجوية التي يفترض أنها تحمي البرنامج النووي، وسياسياً فقد أدى الهجوم إلى تعرية المشروع الإيراني أمام الشعوب العربية، هذه الشعوب، التي لطالما وقفت مع القضية الفلسطينية، بدأت تدرك أن محور المقاومة ليس إلا واجهة لمشروع توسعي يخدم طهران أكثر مما يخدم الفلسطينيين وبهذا، فإن خسائر المحور الإيراني لا تقتصر على الميدان العسكري، بل تمتد لتشمل خسارة المصداقية السياسية.

لتحرير العقل الجمعي العربي من أسر الشعارات الفارغة، لا بد من دور إعلامي حاسم، الإعلام العربي مطالب اليوم بتقديم رواية واقعية تكشف عن أوجه القصور في استراتيجيات المقاومة، وتوضح الفرق بين التضامن مع الشعب الفلسطيني ورفض استغلال معاناته لتحقيق أجندات إقليمية.

هذه الرواية الواقعية يجب أن تكون مبنية على كشف الحقائق، بعيدًا عن المزايدات السياسية، على الإعلام أن يبرز كيف أن إيران وحلفاءها استغلوا القضية الفلسطينية لتحقيق مصالحهم الخاصة، وكيف أن مغامراتهم العسكرية أدت إلى تدمير غزة وتشريد أهلها.

إن إعادة بناء الخطاب العربي تتطلب شجاعة ووضوحًا في مواجهة الحقائق، لا بد من خطاب جديد يُعلي من قيمة الاستقلالية العربية، ويرفض التدخلات الإيرانية والإسرائيلية على حد سواء، هذا الخطاب يجب أن يكون مبنيًا على رؤية واقعية تُركز على مصالح الشعوب العربية، بدلًا من التورط في صراعات لا ناقة لها فيها ولا جمل.

إن مشاهد النزوح المهينة في غزة، والضربات التي تلقاها محور المقاومة الإيراني، ليست مجرد أحداث عابرة، بل هي لحظة فارقة في تاريخ المنطقة، هذه اللحظة تفرض على العقل الجمعي العربي أن يواجه الحقيقة: لا يمكن بناء المستقبل على شعارات جوفاء ومشاريع إقليمية لا تخدم إلا أطماعها.

التحرر من أسر هذا الخطاب، وبناء تحالفات تخدم المصالح العربية الحقيقية، هو التحدي الأكبر اليوم، هل نستطيع أن نواجه هذا التحدي بشجاعة؟ أم سنبقى عالقين في دوامة الشعارات التي لم تجلب لنا سوى الخراب؟ الإجابة لن تأتي من النخب وحدها، بل من الشعوب التي بدأت تدرك أن الوقت قد حان لتغيير قواعد اللعبة.