د. علي محمد جارالله يكتب لـ(اليوم الثامن):

السردية الشعبوية في الميزان بين استثمارات الخليج ودعم غزة

 في عالم تتشابك فيه المصالح وتتعقد فيه العلاقات لم تعد الشعارات الصاخبة ولا الخطابات الانفعالية قادرة على تفسير الوقائع أو التأثير في مسارات السياسة والاقتصاد ما نشهده اليوم من موجة شعبوية تتهم دول الخليج بالخضوع والتبعية ليس سوى تعبير عن جهل مركب يسعى لتغليف العجز بالاتهام والواقع أن الأرقام والاتفاقات التي وُقعت خلال زيارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى دول الخليج تكشف عن شراكة استراتيجية لا عن خضوع كما يروج البعض

منذ لحظة الإعلان عن زيارة ترامب إلى الرياض وأبوظبي والدوحة تصاعدت أصوات تتحدث عن تريليونات دفعتها هذه الدول كـجزية أو مقابل حماية بينما الحقيقة أن تلك الزيارات جاءت في إطار توطيد التعاون الأمني والاستثماري بين حلفاء تاريخيين تجمعهم مصالح متبادلة وتهديدات مشتركة وأن ما تم الإعلان عنه لم يكن سوى تعهدات استثمارية ومذكرات تفاهم في مجالات الطاقة والتسلح والتقنية والابتكار

السعودية على سبيل المثال أعلنت عن استثمارات بقيمة تقارب ستمئة مليار دولار شملت صفقات تسليح بقيمة تجاوزت مئة وأربعين مليار دولار مع شركات كبرى مثل بوينغ ولوكهيد مارتن ورايثيون إضافة إلى مبادرات تقنية متقدمة تضمنت شراكات في مجالات الذكاء الاصطناعي والمدن الذكية

قطر بدورها عقدت اتفاقات تبادل اقتصادي بقيمة تتجاوز التريليون ومئتي مليار دولار من ضمنها طلبية ضخمة لطائرات بوينغ بقيمة ستة وتسعين مليار دولار وصفقات دفاعية بقيمة اثنين وأربعين مليار دولار كما دخلت في شراكات علمية وتقنية في مجال الحوسبة الكمية

أما الإمارات فقد تعهدت باستثمارات تقدر بما بين تريليون وأربعمئة إلى تريليون وستمئة مليار دولار ووقعت صفقات بقيمة مئتي مليار دولار شملت مشاريع في البنية التحتية والذكاء الاصطناعي والطيران والطاقة وأبرمت شراكات في قطاع النفط بقيمة ستين مليار دولار مع كبرى الشركات الأمريكية

وإذا ما عدنا إلى جوهر هذه الأرقام فسنجد أن جزءًا كبيرًا منها يمثل التزامات نوايا أو اتفاقات غير ملزمة قانونيًا أي أنها لا تُصرف نقدًا ولا تُقدم كهبات بل تدخل في إطار السياسة الاستثمارية بعيدة المدى التي تنتهجها الدول الخليجية لتعزيز مكانتها في الأسواق العالمية وضمان أمنها الاستراتيجي

رغم ذلك لا تزال السردية الشعبوية تصر على اختزال هذه السياسات في صورة نمطية تزعم أن الخليج يدفع الأموال مقابل الحماية دون أي مقابل استثماري أو عائد استراتيجي وهنا يكمن الخطر في تداول أفكار تُبنى على العاطفة لا على الفهم وتُروج لخطابات الكراهية بدل التحليل العقلاني

وإذا ما وسعنا زاوية النظر سنجد أن الشعبويين أنفسهم يرفعون شعار المقاومة ويشهرون سيوفهم اللفظية في وجه الدول العربية ويتساءلون بتهكم أين العرب من دعم غزة متناسين أو متغافلين عن أن من يزعمون أنهم حماة المقاومة لم يرسلوا إلى غزة سوى الموت والخطب والعبوات بينما لم تصل من طهران إلى غزة لا شحنات دواء ولا شاحنات غذاء ولم ترسل ميليشياتهم من لبنان والعراق واليمن إلا صواريخ إعلامية سرعان ما ارتدت على أصحابها

في المقابل برزت الإمارات كأبرز دولة عربية قدّمت دعمًا ملموسًا لأهل غزة منذ السابع من أكتوبر وقدمت أكثر من خمسة وستين ألف طن من الغذاء والمستلزمات الطبية بقيمة تجاوزت مليار ومئتي مليون دولار وأقامت مستشفيين ميدانيين أحدهما عائم قرب الشواطئ إضافة إلى ست محطات لتحلية المياه تنتج مليوني غالون يوميًا ومطابخ ميدانية وأفران آلية وشبكات إمداد طارئة

كما قدمت تركيا والإمارات معًا أكثر من ستة وعشرين بالمئة من إجمالي المساعدات الدولية لغزة تليهما السعودية بخمسة عشر بالمئة وقطر بسبعة بالمئة بينما اقتصرت مساهمات الدول التي تدّعي المقاومة على رفع الشعارات والتلويح بالسلاح دون أن تقدم رغيفًا واحدًا أو وحدة إسعاف واحدة

من هنا تبدو المفارقة صارخة بين خطابين خطاب واقعي يحرك المساعدات ويؤسس لمشاريع ويقدم الغذاء والدواء والتعليم وخطاب آخر يغرق في التنظير والتخوين ويكتفي بإلقاء اللوم على الآخرين دون أن يملك أي مشروع بديل أو قدرة حقيقية على الفعل

الخلاصة أن الاستثمارات الخليجية في الولايات المتحدة لم تكن خضوعًا ولا هروبًا من المسؤولية بل كانت تعبيرًا عن سياسات متوازنة تهدف إلى تنويع الاقتصاد وتحصين الأمن واستثمار العلاقات الدولية بما يخدم مصالح الدول وشعوبها

أما المواقف من غزة فقد كشفت على نحو لا لبس فيه من يكتفي بالصراخ ومن يعمل بصمت ومن يستثمر في الدماء ومن يمد يد العون على الأرض بعيدا عن المزايدات

وفي زمن يفيض بالشعارات بات من الضروري العودة إلى لغة الأرقام والوقائع لا الانجرار وراء خطابات الضجيج