عبدالرزاق الزرزور يكتب لـ(اليوم الثامن):
بين المفاعلات والصواريخ.. كيف تربط طهران برنامجها النووي بحزب الله؟
زيارة لاريجاني المرتقبة إلى بيروت ليست تفصيلًا بروتوكوليًا عابرًا كما يحاول البعض تصويرها، بل هي حدث يعكس بوضوح الطريقة التي توظف بها إيران أدواتها الإقليمية لربط ملفها النووي بمشروع نفوذها العسكري والسياسي في المنطقة. علي لاريجاني، رئيس البرلمان الإيراني السابق وأحد أبرز وجوه النظام، لا يأتي إلى لبنان بصفته ضيفًا رسميًا فحسب، بل كموفد سياسي يحمل رسائل مشفرة إلى أطراف متعددة، في وقت يتعرض فيه النظام الإيراني لضغوط متصاعدة بشأن برنامجه النووي. في اللحظة التي يتحدث فيها العالم عن تفعيل آلية الزناد وإمكانية فرض عقوبات أممية جديدة، تختار طهران أن تبعث بإشارة مضادة: النفوذ في بيروت جزء لا يتجزأ من معادلة النووي في نطنز، والسلاح الذي يمسك به حزب الله هو الامتداد الطبيعي لأجهزة الطرد المركزي. إنها لغة السياسة الإيرانية في أوضح صورها: لا فصل بين الداخل والخارج، بين التخصيب في المفاعلات وبين التمدد عبر الميليشيات.
هذا الربط ليس جديدًا؛ فمنذ ثمانينيات القرن الماضي حين تأسس حزب الله بدعم مباشر من الحرس الثوري الإيراني، كان الهدف خلق ذراع عسكرية تمثل امتدادًا استراتيجيًا لطهران على المتوسط، وبوابة ضغط دائم على إسرائيل والغرب. في الحروب اللبنانية، وفي الصراع السوري لاحقًا، وفي كل مواجهة إقليمية مع الولايات المتحدة، أثبت الحزب أنه ورقة متعددة الاستخدامات: أداة عسكرية حين يلزم، ورمز تعبوي حين يُراد، وورقة تفاوضية حين تدعو الحاجة. لذلك فإن زيارة لاريجاني تأتي لتجدد هذا العقد غير المكتوب بين المركز الإيراني وذراعه اللبنانية: بقاء الحزب جزءًا من أمن النظام، وضمانة أن أي تسوية نووية لن تُعقد دون أخذ نفوذه الإقليمي في الحسبان.
لكنّ الزيارة تتجاوز حدود الطمأنة الثنائية بين طهران وحزب الله؛ فهي رسالة مزدوجة الاتجاه: للداخل اللبناني، وللمجتمع الدولي. للداخل اللبناني، أرادت إيران أن تقول بوضوح إنها لن تسمح بأي مسار لنزع سلاح الحزب أو تقليص دوره، وأنّ قوة الحزب خط أحمر يضمن استمرار نفوذها في بيروت. هذه الرسالة تأتي في سياق أزمة لبنانية خانقة، حيث الاقتصاد المنهار، العملة التي فقدت أكثر من 95% من قيمتها منذ 2019، والبطالة التي تجاوزت 30% وفق تقديرات البنك الدولي، وكلها أزمات يعزو كثير من اللبنانيين استمرارها إلى هيمنة الحزب على القرار السياسي والاقتصادي، وإلى تعطيل بناء دولة قادرة. بدل أن يكون لبنان ساحة توازن داخلي يعيد إنتاج الدولة، بات مختطفًا في معادلات إقليمية أكبر منه، يقرر فيها الخارج أكثر مما يقرر الداخل.
أما للمجتمع الدولي، فإن الرسالة الإيرانية أوضح: لا نقاش نوويًا بمعزل عن الاعتراف بنفوذنا الإقليمي. أي محاولة لحصر المفاوضات في نسب التخصيب أو أجهزة المراقبة ستصطدم بجدار الشرط الإيراني: القبول بشرعية أذرعنا، من حزب الله في لبنان إلى الميليشيات في العراق وسوريا واليمن. هذه معادلة ابتزاز مكتملة الأركان: النووي مقابل النفوذ، أو بالأحرى النووي مضافًا إلى النفوذ. بهذا المعنى، تصبح زيارة لاريجاني ورقة ضغط سياسية؛ إذ تُلوّح طهران بأنها قادرة على إشعال الساحة اللبنانية في أي لحظة إذا ما تعرض برنامجها النووي لتهديد وجودي. فالحزب الذي يمتلك ترسانة من عشرات الآلاف من الصواريخ، بعضها دقيق وبعضها متوسط وبعيد المدى، قادر على تحويل أي تصعيد نووي إلى حرب إقليمية شاملة تُربك إسرائيل وتضع الغرب أمام خيار الانخراط العسكري المباشر أو القبول بشروط التفاوض.
التوقيت هنا لا يقل أهمية عن مضمون الرسائل. فالمنطقة تمرّ بتوترات غير مسبوقة: تصاعد التهديدات المتبادلة بين إسرائيل وإيران، ضربات جوية وغامضة في سوريا والعراق تستهدف مواقع الحرس الثوري والميليشيات التابعة له، تصعيد أمريكي بشأن “تفكيك الشبكات الإيرانية” في المنطقة، وأزمات داخلية متلاحقة في لبنان. في هذا السياق، أرادت طهران أن تستبق أي محاولة لعزل ملف حزب الله عن الملف النووي، فجاءت الزيارة لتعيد ربط المسارين. فكما أن أجهزة الطرد المركزي في فوردو ونطنز لا يمكن إيقافها دون تفاهم سياسي، كذلك لا يمكن تحجيم حزب الله دون ثمن إيراني في معادلات النووي. إنه ربط متعمد يعكس إدراكًا عميقًا بأن الغرب لا يستطيع الدخول في مواجهة مزدوجة: ملف نووي ملتهب من جهة، وذراع عسكرية قادرة على إشعال شمال إسرائيل من جهة أخرى.
بالنسبة للبنان، هذا التطور يمثل معضلة وجودية. فالدولة التي تعاني من عجز سنوي يتجاوز 10% من ناتجها المحلي، والتي تعيش على قروض وهبات خارجية محدودة، تجد نفسها رهينة سلاح الحزب الذي يمنع أي إصلاح جذري ويعطّل مؤسسات الدولة كلما اقتضت الحاجة. الزيارة تعمّق الانقسام الداخلي؛ فبينما ستحتفي القوى الموالية لطهران بها كدليل دعم “للمقاومة”، فإن شريحة واسعة من اللبنانيين تراها تدخلًا سافرًا في الشأن الداخلي، وتعزيزًا للوصاية الإيرانية التي لم يعد خافيًا أنها تُدار عبر الحزب. في نظر هؤلاء، استمرار السلاح خارج الدولة هو السبب الجوهري لتفكك المؤسسات وغرق لبنان في أزمات متلاحقة: من الكهرباء إلى النفايات، ومن الفساد المالي إلى العزلة العربية والدولية. ومع كل أزمة جديدة، يتكرس الشعور بأن لبنان صار ورقة تفاوض إقليمية أكثر من كونه دولة ذات سيادة.
على الصعيد الدولي، تطرح الزيارة سؤالًا ملحًا: كيف يمكن مواجهة النفوذ الإيراني في لبنان دون تحويله إلى ساحة حرب بالوكالة؟ قرارات الأمم المتحدة واضحة في هذا الصدد، وعلى رأسها القرار 1559 الذي يطالب بنزع سلاح الميليشيات، والقرار 1701 الذي أرسى وقف إطلاق النار بعد حرب 2006. لكنّ التطبيق غائب، والإرادة الدولية مترددة. القوى الكبرى تخشى أن يؤدي أي ضغط ميداني على حزب الله إلى حرب شاملة مع إسرائيل، وهو سيناريو لا يرغب أحد في خوضه. في المقابل، الاكتفاء بالبيانات والتحذيرات لا يغير الواقع شيئًا، بل يمنح إيران مزيدًا من الوقت لترسيخ نفوذها. من هنا تأتي أهمية بلورة استراتيجية موحدة تدمج أدوات الضغط الاقتصادي والسياسي والقانوني، مع دعم مباشر للمؤسسات اللبنانية الشرعية، من الجيش إلى القضاء، لقطع الطريق على تمدد الحزب وتحويله إلى دولة داخل الدولة.
الزيارة أيضًا لا تنفصل عن الحسابات الجيوسياسية الكبرى. فإيران اليوم تسعى لتكريس نفسها قوة إقليمية لا يمكن تجاوزها. في ظل تحولات النظام الدولي، والتراجع النسبي في النفوذ الأمريكي، والحروب المندلعة في أكثر من جبهة، ترى طهران أن لحظة مناسبة تتيح لها رفع سقف مطالبها. هي تراهن على أن الغرب، المنهمك في أوكرانيا وفي صراع الطاقة مع روسيا، لن يفتح جبهة كاملة معها. وهي تراهن أيضًا على انقسام عربي عميق يمنحها هوامش مناورة واسعة. لذلك فإن زيارة لاريجاني ليست مجرد تأكيد دعم لحزب الله، بل إعلان بأن أي مقاربة للملف النووي أو النفوذ الإيراني لا بد أن تمر عبر الاعتراف بإيران كقوة مقررة في المشرق. بمعنى آخر، بيروت هنا ليست غاية بل وسيلة لإرسال رسالة أوسع إلى واشنطن وتل أبيب والعواصم الأوروبية والعربية.
لكن إلى أي مدى يمكن أن ينجح هذا الرهان؟ الواقع أن إيران تواجه في الداخل أزمات متفاقمة: تضخم تجاوز 40%، بطالة عالية، احتجاجات متكررة تقودها النساء والشباب، ومجتمع بدأ يفقد الثقة في قدرة النظام على توفير حياة كريمة. إنفاق مليارات الدولارات سنويًا على دعم ميليشيات خارجية، من حزب الله إلى الحوثيين، يُنظر إليه داخليًا باعتباره استنزافًا لثروات كان يمكن أن تُوظف في تحسين البنية التحتية والاقتصاد. هذا التناقض بين الداخل المأزوم والمغامرات الخارجية لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية. لذلك، قد تكون زيارة لاريجاني أيضًا محاولة لطمأنة الداخل الإيراني بأن “النفوذ الإقليمي بخير”، وأن النظام لا يزال قادرًا على اللعب بأوراق قوة خارجية رغم الضغوط الداخلية.
من جهة أخرى، لا يمكن إغفال أن هذه الزيارة تضع القوى الوطنية اللبنانية أمام مسؤولية تاريخية. فالمعادلة الإيرانية واضحة: بقاء حزب الله مسلحًا يساوي استمرار نفوذها في لبنان. والمطلوب من القوى الوطنية أن تواجه هذه المعادلة بجرأة عبر بناء جبهة واسعة تتمسك بسيادة الدولة، وتفضح حقيقة أن الحزب لم يعد مقاومة وطنية بل أداة إيرانية. الإعلام الحر، والنخب السياسية، والمجتمع المدني، جميعها مدعوة إلى كشف الطابع الحقيقي للزيارة ومنع النظام الإيراني من توظيفها كإنجاز سياسي. صحيح أن ميزان القوى الداخلي لا يميل لصالح هذه القوى في اللحظة الراهنة، لكن تراكم الوعي الشعبي وضغط الشارع، مدعومًا بموقف دولي أكثر صرامة، يمكن أن يفتح ثغرات في جدار الوصاية.
في النهاية، لا يمكن النظر إلى زيارة لاريجاني بمعزل عن المعركة الكبرى التي يخوضها النظام الإيراني لتثبيت برنامجه النووي وتحصين أدواته الإقليمية. الرسالة الإيرانية واضحة: نحن لا نتراجع عن النووي، ولا نتخلى عن ميليشياتنا، ومن يريد التفاوض معنا عليه أن يقرّ بهذه المعادلة. لكن ما يغفله النظام أن مستقبل لبنان لا يُرسم في طهران، بل في بيروت، على يد أبنائه الذين يرفضون الوصاية الأجنبية ويتمسكون بدولة سيدة حرة مستقلة. التحدي كبير، لكن التاريخ يُثبت أن إرادة الشعوب، مهما تأخرت، قادرة على قلب الموازين. فكما سقطت وصايات سابقة، سيسقط أي مشروع يحاول تحويل لبنان إلى مجرد ورقة في لعبة دولية أكبر منه.
إن زيارة لاريجاني تكشف بوضوح عن طموحات إيران في ربط ملفها النووي بأذرعها الإقليمية، لكنها تكشف أيضًا عن مأزقها العميق: فهي مضطرة دائمًا إلى استخدام الخارج لتعويض ضعف الداخل. الشعب اللبناني بوعيه وإصراره قادر على مواجهة هذا التحدي عبر تعزيز وحدته الوطنية ورفض أي وصاية خارجية. وفي النهاية، يبقى السؤال معلقًا: هل يملك المجتمع الدولي الشجاعة لكسر معادلة الابتزاز الإيراني، أم يواصل الدوران في حلقة المساومات التي طالت عقودًا؟
– محامٍ وناشط سياسي سوري