د. باسم المذحجي تكتب لـ(اليوم الثامن):

ما بعد الصفقة.. هل تصنع شرم الشيخ نهايةً للحرب أم هدنةً طويلة؟

حين يبدأ أي مفاوضات أو صفقة سلام في مثل هذا السياق، تجري في طيّات الأمر موازين قوى، أجندات خفية، ودور وسطاء إقليمية ودولية. في الحالة الراهنة، يمكننا ملاحظة عدد من الخطوات والمراحل التي مهدّت الطريق إلى استدعاء قمة شرم الشيخ:

أولاً، منذ بدء الحرب، تقدّمت دول مثل مصر وقطر وتركيا بدور وساطة بين إسرائيل وحماس، لتخفيف الحِدّة، إطلاق بعض الدفعات من الأسرى، وتوفير ممرات إنسانية. هذا دور قديم متكرر في الصراع.

خلال الأشهر التي تلت، جرت مفاوضات مكثّفة خلف الكواليس بين إسرائيل وممثّلين حماس عبر وسطاء، حول تبادل أسرى، شروط وقف إطلاق النار المؤقت، وضمانات إشراف دولية أو عربية.

في هذه الأثناء، لعبت الولايات المتحدة دور المنسّق الخارجي، محاولًا أن يُظهر ترامب نفسه كـ"صانع سلام"، يقدم خارطة طريق لتسوية جزئية — مثلاً وقف مؤقت للهجمات مقابل إطلاق أسرى، وضمان دخول مساعدات إنسانية. 

تزامن هذا مع التهيئة الإعلامية والدبلوماسية: إسرائيل تقول إنها مستعدة لانسحاب جزئي أو لإعادة التموضع، إلى جانب تأكيدات من حماس بأنها لا تُمانع التهدئة إذا ترافقت مع خطوات حقيقية نحو فكّ الحصار والاعتراف الدولي.

في الأيّام الأخيرة، أعلن المصريون تنظيم قمة دولية في شرم الشيخ تضمّ أكثر من 20 دولة، برئاسة مشتركة بين السيسي وترامب، تهدف إلى توقيع اتفاق حول نهاية الحرب وإطلاق مرحلة جديدة من الاستقرار. 

وقد تمّ تحديد بنود أولية للخارطة الزمنية: إطلاق أسرى فلسطينيين مقابل بعض الأسرى الإسرائيليين، انسحاب إسرائيل لمواقع معيّنة، فتح معابر إنسانية، تقديم مساعدات عاجلة لإعادة الإعمار، وضمان إشراف دولي أو عربي على تطبيق البنود

منذ الصباحات الأولى التي سبقت القمة، ظهرت مشاهد مروعة لأسير فلسطيني يُعرض مقيدًا ومعصوب العينين ومحاطًا بكلاب بوليسية، وهي لقطات تذكّر العالم بأن السلام ليس مجرد معاهدة بل صراع على الكرامة.

 شرم الشيخ ليست مجرد مدينة ساحلية تقام فيها قمم وزيارات، إنها اليوم مسرح محاولةٍ لإخراج المنطقة من لهيب حربٍ امتدت لأكثر من عامين وأفرزت مأساة إنسانية كبرى وخللاً استراتيجياً في المنطقة، وترمي القمة إلى تحويل ما سُمّي صفقة وقفٍ وإطلاق أسيرٍ إلى إطار سياسي يضع حدًّا لدوامات العنف ويُنقِذ ما يمكن إنقاذه من منظومة المصالح الدولية والإقليمية. الإعلان عن استدعاء قادة العالم إلى القمة برئاسة مشتركة بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس الأمريكي دونالد ترامب يعكس إدراك القاهرة وواشنطن بأن وقف النار وتثبيته يحتاجان إلى منصة دولية تضيف عناصر ضغط وضمانات تنفيذية. هذا الترتيب لم يكن مفاجئًا بالكامل فهو ترجمة لمسار وساطة مارسته مصر وقطر وتركيا وأحياناً أطرافٌ غربية منذ بدايات التصعيد، لكن سرعان ما خرجت الوساطة من طابعها الثنائي لتصبح استحقاقاً متعدد الأطراف.

في قلب أي قراءة واقعية لابد من البدء بالوقائع الملموسة على الأرض. الأرقام الرسمية المتداولة حتى منتصف العام تمثل شهادةً دامغة لحجم الكارثة البشرية والبنية التحطمية التي حلت بقطاع غزة. تقارير وزارة الصحة ووكالات الأمم المتحدة رصدت عشرات الآلاف من القتلى والجرحى، والبنى الأساسية المدمّرة، وحالات مجاعة ومجالات صحية على شفا الانهيار. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات جامدة بل هي عناصر تُشكّل إطار الضغط الإنساني الذي دفع بالوسطاء نحو تسريع مفاوضات تبادل أسرى وإعلان مؤقت لوقف إطلاق النار. إن فهمنا لأي صفقة أو قمة لا يمكن أن ينطلق إلا من إدراك أن ما يجري هنا ليس لعبة سياسية فحسب بل معركة وجود إنساني يحكمها عدد من المؤشرات الصحية واللوجستية والاقتصادية. 

لكن الأرقام وحدها لا تروي كل القصة، هناك بُعدين رمزي وسياسي لا يقلان خطورة. المشاهد المذلّة التي بثتها بعض الوسائط والتي تُظهر أسرى مكبّلين ومعصوبي الأعين ومحاطين بكلاب بوليسية أعادت إلى المشهد البشري ذاكرة العنف والمهانة، وأشعلت غضباً واسعاً دفع جزءاً من الرأي العام العالمي إلى التشكيك في جدية أي سلام لا يضمن كرامة الأسير والحياة الإنسانية. إن هذه الصور تعمل كمضاد للرسائل السياسية الرسمية التي تدّعي السعي نحو استقرار وكرامة، لأن السلام الذي يُبثّ معه مشاهد الإذلال يفقد شرعيته الأخلاقية قبل السياسية. البيان الأخلاقي هنا واضح، لا هناك إمكانية لصيغة سلام تستبعد العدالة والكرامة كأساس، وإلا تحول كلّ اتفاق إلى طلاءٍ فوق جرحٍ عميق. 

الصفقة التي تم التفاوض عليها، بحسب التصريحات والمصادر الإعلامية، أشارت إلى بنود أولية تتضمن تبادل أسرى ووقفاً مؤقتاً للأعمال القتالية مع شروطٍ لتدفق مساعدات إنسانية وفتح معابر وإطار لإدارة مرحلية لإعادة الإعمار. هذه البنود تبدو منطقية على الورق لأنها تخلق نافذة لتخفيف معاناة المدنيين وتتيح عمل المنظمات الإنسانية، لكنها تطرح فوراً سؤالين أساسيين: من يضمن التنفيذ، ومن سيدير غزة في مرحلة ما بعد الحرب؟ الإجابة على هذين السؤالين ستحدد مصير الاتفاق بين ثبات هش أو سلام مستدام. تتداخل هنا أدوار محورية لمصر وقطر وتركيا وللدولة الضامنة الأميركية، وكل طرف يحمل أدوات ضغط مختلفة. إن نجاح الالتزام بهذه البنود مرتبط بوجود آليات رقابية دولية شبه مستقلة وبشبكة حازمة من حوافز وعقوبات لضمان الانضباط. Reuters+1

في قراءة القوى، إسرائيل تملك التفوق العسكري والقدرة على المناورة وامتياز الأمن الذي يمنحها هامشاً سياسياً كبيراً. هذا الفارق سيبقى دائماً عنصراً مزعزعا لأي تسوية تُعتبر عادلة بالمعنى الفلسطيني. بالمقابل، الفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها حماس، تحاول استثمار قدرة المقاومة للتفاوض من موقع ما، لكن هذا الموقع هشّ لأنه يعتمد على قاعدة شعبية ومحور دعمٍ إقليمي محدودٍ ومهدّد. هذا التفاوت في القوة يجعل ثوابت الاتفاق قابلة للاهتزاز بمجرد تغيّر واحد في المعادلة الإقليمية أو الدولية، خصوصاً إذا تراجع ضغط الضامنين أو اختلفت أولوياتهم. من هنا ينبع الخطر الأكبر ألا وهو أن يتحوّل أي وقف مؤقت إلى تجميد طويل لا يتعامل مع أسباب الصراع البنيوية

لا يمكننا أن نغفل عن بعدٍ إقليمي يجعل أي تسوية محكومة بموازين نفوذ أكبر من حدود القطاع. إيران وامتداداتها في شكل حلفائها الإقليميين، حزب الله على سبيل المثال، وكذلك تركيا وقطر ودول الخليج، كل منهم يمتلك مصالح قد تتقاطع أو تتعارض مع بنود أي اتفاق. هذه المصالح تؤثر على مدى قدرة أي طرف على الالتزام أو الإقلاع عن خيارات الضغط. إذا كان الاتفاق لا يضمن أشكالاً من التوافق الإقليمي أو على الأقل تجنب الحروب بالوكالة، فإنه سيظل هشاً. كذلك، الموقف الأميركي في مجلس الأمن وقدرته على الحماية أو الضغط يبقى ركيزة أساسية. فأن تضع واشنطن ثقلها خلف بنودٍ ملزمة فهذا يعطي الاتفاق فرصة أكبر، أما بقاء الخيار في القوى الأحادية فسيضع التنفّس تحت رحمة التبدلات

الحالة الفلسطينية الداخلية هي تهديد آخر للاتفاق. الانقسام بين غزة والضفة ما زال سيفاً على أي مشروع استقرار. إدارة غزة على نحو مستدام تتطلب اتفاقًا داخليًا بشأن آليات الحكم والسلطة والمساءلة. إذا ظلت غزة تحت إدارةٍ مؤقتة تفتقر لشرعية شعبية أو تدار جزئياً من قوى خارجية فإن شرعية أي حكومة انتقالية ستبقى موضع تساؤل وسيُسهل على أطراف داخلية وخارجية تقويض ما يُنجز. إعادة بناء مؤسسات مدنية قوية وشفافة، عقد انتخابات تضمن تمثيلاً حقيقياً، وبرنامج اجتماعي اقتصادي يعيد دمج النازحين والقطاعات المتضررة هي مفاتيح لا غنى عنها. بدون هذه الخطوات سيبقى السلام قائمة على رُقعٍ قابلة للتمزق.

إننا أمام مفترق طرق بين مسارات متعددة. أحد المسارات المتاح هو توقيع اتفاق هش يجمّد الحرب لمدّة مؤقتة، يُتيح دخول مساعدات وإجلاء الجرحى وإطلاق بعض الأسرى، ثم يهبط على الأرض كوقفة تنفسية. هذا الحل يملك فضائل فورية لأنه ينقذ حياة، لكنه عيبٌه أنه لا يزيل جذور المشكلة، وإذا غاب التخطيط للمرحلة الانتقالية الشاملة فسيكون مجرد سُنْدُوِيتش سلام ينهار تحت ضغط أي استفزاز عسكري أو سياسي. المسار الآخر هو تسوية أكثر شمولاً تتضمّن اعترافاً سياسياً بخطوات نحو قيام دولة فلسطينية أو حزمة ضمانات دولية تقطع الباب أمام عودة العنف، وهذا الطريق صعب لأن تنفيذه يتطلب تضحيات أمنية وإستراتيجية من إسرائيل ورغبة سياسية مرّة واحدة من طرف دولي كبير لتقليص الهوامش الإسرائيلية في استخدام الفيتو السياسي ضد قرارات دولية. ثمة أيضاً سيناريو ثالث يطمر الاتفاق في مهبّ فشل الآليات الرقابية والالتزامات المالية، فيعود الجهاد إلى الميدان والحرب إلى دائرةٍ جديدة من الدمار. هذه الاحتمالات جميعها قابلة لأن تتحقق، والاختلاف سيأتي من مدى صلابة الضمانات المصاحبة للاتفاق وعمقه السياسي

في بعدٍ عملي يجب أن نقرأ نصوص الاتفاق المحتملة بعين الخبير الإداري، لأن تنفيذ أي بند يتطلب خطة لوجستية، جداول زمنية، وأطر رقابية. فتح المعابر يعني ترتيب سلامة الشحنات والأفراد، فهو لا يقتصر على مسألة قرار سياسي بل على خطة أمنية ومنظومات فنية. إعادة الإعمار تتطلب تدفقات مالية كبيرة وإشرافاً مستقلاً لمنع الفساد، وخطة لإعادة الإيواء وإعادة بناء شبكات المياه والكهرباء والصحة. إذا غاب التنسيق الدولي في هذه الملفات فستفشل جهود الإعمار سريعاً وستصبح الأموال أدوات نزاع لا شفافية. هنا تظهر ضرورة وجود هيئة دولية أو عربية مشتركة لإدارة صندوق إعادة الإعمار بآليات محاسبية واضحة وفرق رقابية حقيقية

سياسياً، الثقة مفقودة بين الأطراف وهي أصلُ أي اتفاقية، لذا لا بد من فصول للتدريج والتقارب. الأطر العملية أن تبدأ باتفاقيات صغيرة قابلة للقياس، تتبعها خطوات أكبر، مع آلية مراجعة دورية ووسائل تصحيحية آنية. يجب أن يتضمن أي نص بنداً يسمح لوسيطٍ أو لآلية متعددة الجنسيات بالتحقيق الفوري في أي خرق وفرض عقوبات، وليس مجرد بيانات تنديد بلا أثر. هذه الآليات القانونية يجب أن تكون متكاملة مع أدوات ضغط دبلوماسية واقتصادية ومقترنة بشروط زمنية واضحة لا تقبل التأجيل. من دون هذا التكامل سيبقى الاتفاق ورقة تقدّم صوراً جميلة لتغليف الصراع دون أن تغير وقعه. 

على مستوى التوصيات، هناك ضرورة لخطّين متوازيين، الأول تقني إداري يشمل آليات إعادة الإعمار واللوجستيات والمراقبة، والثاني سياسي استراتيجي يشمل شروط تنفيذية واضحة وورقة مزايا وعقوبات. ينبغي أن تقرّ الدول الضامنة خطة تمويلية تبدأ بدفعة عاجلة تُستخدم لإعادة تشغيل شبكة المياه والمستشفيات الأساسية، مع صندوق رقابي دولي يوزع الموارد بشفافية، ثم خطة طويلة الأمد تعيد تشغيل الاقتصاد المحلي من خلال مشاريع تعليمية وصحية ومشروعات بنية تحتية مدروسة. على الجانب السياسي يجب أن تتبنى الوساطة خطة واضحة لدمج غزة في إطار سيادي فلسطيني موحّد، أو خطة انتقالية قصيرة الأمد تفضي إلى انتخابات مُراقبة دولياً خلال إطار زمني محدد. ولا بد أن تتضمن التوصيات شروطاً لخفض التوتر العسكري تدريجياً كآليات احترازية بدل اعتماد الانسحاب المفاجئ الذي قد يخلق فراغاً أمنياً تستغله مجموعات مسلحة.

في المشهد الأخلاقي والإنساني لا بد من اعتراف صريح بجرائم الحرب والمُعاناة الموثقة، وعدم ترك ملفات المحاسبة الدولية مفتوحة للتأويل. العدالة ليست ثأراً بل هي ضرورة لبناء ثقة متبادلة، وهي الضمانة الأفضل لسلام طويل الأمد. من دون معالجة الأذية والاعتراف بالمسؤوليات ستبقى الذاكرة المجتمعية حاضرة لتوليد أجيال جديدة من الغضب.

أخيراً، قمة شرم الشيخ قد تكون لحظة مصيرية أو فقاعةٍ زمنية. إن استُخدمت القمة لتوقيع اتفاق مؤسس على آليات تنفيذ واضحة مع ضمانات إقليمية ودولية، وإلزامية قانونية، وغطاءٍ مالي وإنساني حقيقي، فسنكون أمام فرصة لإعادة كتابة فصل جديد من تاريخٍ طويل من الفشل. وإن تجاهلت القمة هذه العناصر أو اعتمدت خطاباً احتفائياً دون آليات صارمة، فسيكون مصير الاتفاق ما جرت عليه عادة الاتفاقات المعلّبة: تأجيل المشكلة إلى حين تجدد العنف.

القول القاسي في النهاية أن السلام الحقيقي لا يأتي من قمم صورها جميلة بل من تدابير يومية تُعيد الكرامة وتزيل أسباب الحرب. إذا كانت شرم الشيخ نقطة انطلاق لعهد حيث تُستعاد الكرامة والحقوق وتُطبّق العدالة، فسلّم الله لنا خُطى التاريخ. وإذا لم تكن كذلك، فسيظل التاريخ يعيد نفسه، ونحن ندور في حلقة مألوفة لا تنتهي إلا بتصميمٍ حقيقي على تغيير أسس المعادلة.