"الربيع العربي"...

خريف التنظيمات المتأسلمة

"الظواهري يقول للبغدادي أنت كذَّاب". هكذا تناقلت الفضائيات الخبر، وقد يكون في جعبة الظواهري أكثر من ذلك، ولا يُلام، بسبب ما نال "القاعدة" من ضربات قوية أفقدتها التركيز، وكان أكثرها إيلاماً تلك الآتية من داخلها، وتحديداً من البغدادي، فوصل بالتنظيم الحال إلى أنه لا يكاد يُفتح حديث عن الإرهاب إلا ويقفز اسم "القاعدة" إلى الأذهان، حتى أصبحت شماعة تعلق عليها كلّ عمليات القتل؛ أقام بالجريمة مسلم أو غير مسلم، عربي أو أعجمي! وقد استطاع كثير من الأطراف التخلص من خصومهم تحت ستار "القاعدة هي الفاعل"، ونشأت تنظيمات مرتزقة، وتنظيمات طائفية، وتنظيمات سرية تديرها أجهزة مخابرات، وتنظيمات تهريب المخدرات ... إلى آخره، تحت عباءة "القاعدة" أو عباءة اختراقها، أو محاربتها، أو غيرها من الأسباب المتعلقة بها، وهذا ما كان ليحدث لولا وقوع "القاعدة" في مطحنة "الربيع العربي"، التي لم تستثن شيئاً إلّا غربلته؛ فطحنت من يستوجب طحنه، وقشّرت من يستوجب كشفه.


حين نقف على حال التنظيمات المتأسلمة، "القاعدة" نموذجاً، نرى أنه خلال الخمس سنوات الماضية، سقطت أسسها الفكرية واحداً تلو الآخر، وأول هذه الأسس "الخروج على الحاكم"، الذي كانت ترى أنه لا يجوز إلّا إذا قام بكفرٍ بواح؛ ولأنها كانت ترى أن معظم الأنظمة العربية والإسلامية كافرة، فقد كانت تعتبر أن عدم خروج الشعوب ضد الحكّام عائد لخنوعها وذلها، وليس لأن فكرها المتشدد لا يقبله عقل.

وعندما خرجت الشعوب في "الربيع العربي" واضعةً أساس خروجها "ظلم السلطة وفشلها وفسادها"، ارتبكت "القاعدة" ووقعت في مأزق فكري وآخر تنظيمي؛ فإما أن تغير مبدأها وتخرج مع الشعوب على اعتبار أن السلطة فاشلة وليست كافرة، وإما عدم الخروج، ما أدّى إلى انهيار في هذا الفكر أولاً، ثم لحقه انهيار في البنية التنظيمية، فظهرت تنظيمات بديلة تماهت مع شعارات شعوب "الربيع"، كان أولها "أنصار الشريعة - اليمن" في 2011، الذي سيطر على أجزاء واسعة من محافظتي أبين وشبوة، ثم لحقته "داعش" و"النصرة" وغيرها في العراق والشام.


بدخول عام 2012، توالت الضربات على "القاعدة"، وتمكنت الطائرات الأمريكية من قتل عدد كبير من قياداتها الفكرية والميدانية، وعدد أكبر من مقاتليها الأشداء، بسبب خيانات من داخل التنظيم. وتلى ذلك سقوط الأساس الثاني الذي اعتمدت عليه والتنظيمات المفرخة منها، وهو "الجهاد"، عندما أعلنت المملكة العربية السعودية في 2015 عملية "عاصفة الحزم" في اليمن، وشكلت "التحالف العربي"، ثم "التحالف الإسلامي"، فأصبحت الدول الإسلامية بقيادة المملكة تقود معركة "جهاد" ضدّ أحد الأعداء الرئيسيين لتنظيم "القاعدة" والذي تسميه "الروافض"، والتفت الشعوب حول أنظمتها، وأصبحت "القاعدة" في موقف محرج عندما تجاوزتها الشعوب والحكومات.


ويمكن اختصار توصيف حال التنظيم خلال الفترة من 2011 حتى اليوم كالتالي:كان "الربيع العربي" امتحاناً لكل التنظيمات التي تدّعي أنها "الإسلام الحقيقي"
أولاً: أصبحت "القاعدة" مسمار جحا، يستخدمها الغرب لابتزاز ونهب الدول العربية والإسلامية، فنجح الغرب في الابتزاز دون أن تحقق "القاعدة" أي مصلحة تُذكر.


ثانياً: حصان طروادة لمرتزقة إسلاميين (سنة وشيعة)؛ وهم تنظيمات وأحزاب سياسية أظهرت للعالم التدين الإسلامي الوسطي، وقدمت نفسها الشريك الإسلامي القادر على إسقاط "القاعدة" وفكرها المتطرف، منها ما صنعته مخابرات دول غربية وغيرها، وحققت نجاحات في مسيرتها على حساب "القاعدة".


ثالثاً: واجهت "القاعدة" انقطاع مورد من أهم مواردها البشرية، كوادر وجنوداً، نتيجة ظهور المدرسة السلفية السلطوية؛ فعندما كان السلفيون يعلنون زهدهم بالسلطة، وأنهم نذروا أنفسهم لطلب العلم والدعوة والتبعية المطلقة للحكام - أولياء الأمر، كان الشباب السلفي الرافض لفكرة الزهد بالسلطة ينضم إليها، ولكن بعد "الربيع العربي" وبروز تيار سلفي يسابق إلى المناصب والوظائف الحكومية والعسكرية (اليمن وليبيا مثالاً)، انقطع هذا الرافد الثري عن "القاعدة".


رابعاً: أصبح التنظيم "وكالة من غير بواب"؛ فالتنظيمات المفرخة فتحت أبوابها لانضمام كل راغب بدون شروط، مهما كانت خلفيته الفكرية، ومهما تكن أسبابه، وكيفما كانت سمعته وأخلاقه، واضطرت "القاعدة" لمجاراتهم، فانضم إليها في سنوات الربيع الخمس "كل من هب ودب". فالخارجون عن القانون، واللصوص، وشذَّاذ الآفاق، انضموا لهذه التنظيمات من أجل تحقيق أهداف شخصية، أو أهداف من يقف خلفهم، وما حدث في حضرموت في أبريل 2015 من انضمام وحدات عسكرية بكاملها إلى التنظيم خير شاهد، حيث تعمل هذه الوحدات لمصلحة النظام الفاسد "الكافر"، وبذلك أصبحت تخدمه بعد أن ظلت لسنوات تعلن الحرب ضده! لقد كان "الربيع العربي" الإمتحان الصعب لكل التنظيمات التي تدّعي أنها "الإسلام الحقيقي، القائد بأمر الله على الأرض"، أكانت سنية أو شيعية.

كل التنظيمات ظهرت على حقيقتها، وجذورها، ومن هو ربُّها، وما تركيز المقال على تنظيم القاعدة إلّا لأنه أكثر من تعرض للضرب في ربيع العرب، حتى ذاب وأوشك على الاختفاء من الساحة. لم يعد أمام قيادات هذه التنظيمات من خيار غير القيام بعملية مراجعة واسعة وعميقة في جذور فكرها، واستراتيجياتها العملياتية حتى تبقى، وقد تكون "القاعدة" بدأت فعلاً بالمحاسبة الذاتية منتصف 2016 عندما قال أميرها الدكتور الظواهري إنهم في "القاعدة" لا يريدون "الحكم"، بل يريدون أن "يُحْكموا بالشريعة"، بمعنى أنهم لا يريدون السلطة، وأنهم مواطنون يقرون بالسلطات الحاكمة لبلاد المسلمين بشرط أن تكون الشريعة الإسلامية مصدر القوانين، وهذا القول - في رأيي - ينسف كل أيديولوجيتها، وأسباب شنّها الحروب الطويلة لإسقاط الأنظمة العربية، وإقامة الخلافة، والحكم بشرع الله، كما كانت تقول، بل أصبحت بهذا الفكر أقرب لأي حزب سياسي معارض.


ختام القول، إن الجماعات والتنظيمات والأحزاب الإسلامية بصفة عامة هي كأي جماعات ضغط أو أحزاب سياسية يسارية - اشتراكية - ديمقراطية أو غيرها، تقوم على مبادئ وأفكار وضعها الخلق وليس الخالق، قد تصيب وقد تخطئ، وقد تخترق وتخدم أعداء الإسلام كأيّ جماعة أو حزب سياسي، والإسلام بريء من أخطائهم، ويبقى الإسلام - إلى يوم القيامة - دين مكارم الأخلاق؛ قد تحكم بتشريعاته دولة غير عربية ولا إسلامية في أمريكا اللاتينية أو أوروبا أو غيرهما، كما جاء في المقولة الشهيرة للإمام محمد عبده في 1881 عندما عاد من باريس: "ذهبت للغرب فوجدت إسلاماً ولم أجد مسلمين، ولما عدت للشرق وجدت مسلمين ولم أجد إسلاماً".

**من موقع العربي