أصبحت متاجر المواد الغذائية لا تخلو من الحليب الذي تمتد صلاحيته لشهور
سّرُ بقاء الحليب المعالج حراريا صالحا لشهور
يُعد الحليب المعالج تحت حرارة فائقة من السلع الرئيسية التي لا تكاد تخلو منها متاجر المواد الغذائية، ولا سيما في المناطق الحارة، حيث يفسد الحليب بسهولة. وتبحث "بي بي سي فيوتشر" الخواص المميزة لهذا الحليب طويل الأجل.
من المعروف بشكل عام أن الحليب من المنتجات التي لا تمتد صلاحيتها لفترات طويلة. وحتى المبستر منه يفسد بعد مرور نحو 10 إلى 15 يوما في الثلاجة، على أحسن التقديرات، رغم أن عملية البسترة تقضي على الكثير من البكتيريا الموجودة طبيعيا فيه.
ولكن في السنوات الخمسين أو الستين الأخيرة، أصبح من المعتاد أن نجد على أرفف متاجر المواد الغذائية نوعا من الحليب تمتد صلاحيته لشهور، وليس لأيام أو أسابيع، ولا يحتاج إلى تبريد. ويُعالج هذا الحليب الذي يوضع في عبوات مصنوعة من الورق الشمعي واسع الاستخدام، ولكن بطريقة مذهلة تترك آثارا على الحليب بعضها واضح وبعضها قد يثير دهشتك.
يقول هيلتون ديث، خبير الألبان والذي تقاعد مؤخرا من جامعة كوينزلاند، إن عملية البسترة بالحرارة فائقة الارتفاع التي تُستخدم في إنتاج هذا النوع من الحليب تستغرق وقتا قصيرا للغاية مقارنة بعملية البسترة المعتادة.
وفي البداية كان الهدف من عملية البسترة، التي ابتكرها لويس باستور وسُميت على اسمه، هو القضاء على البكتيريا المسببة للسل بالإضافة إلى أنواع أخرى من البكتيريا المسببة للأمراض. وتتضمن عملية البسترة تسخين الحليب حتى 72 درجة مئوية لنحو 15 ثانية، ثم تبريده.
لكن عملية البسترة لا تقضي على جميع البكتيريا، إذ أن العديد من البكتيريا غير الضارة تظل حية طالما ظل الحليب محفوظا في الثلاجة واستُهلك في فترة وجيزة. وأغلب أنواع الحليب التي تُباع في الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا يجري معالجتها بعمليات البسترة، على اختلاف أنواعها.
لكن الحليب المعالج بالحرارة الفائقة هو الأكثر انتشارا في الكثير من البلدان الأوروبية. ويتعرض هذا الحليب للتسخين حتى 140 درجة مئوية، أي ضعف درجة حرارة البسترة المعتادة، لثلاث ثوان فقط، وتُحدث الحرارة العالية مفعولها على الفور لتقضي على جميع أنواع البكتيريا، فضلا عن أغلب البكتيريا المكونة للجراثيم التي يمكنها الصمود أمام درجات حرارة أقل.
ولأن هذا الحليب يكاد يخلو من البكتيريا، طالما كان معبأ في عبوة معقمة، فإنه سيظل طازجا لفترات طويلة، وهذا يعني أنه لن يفسد ما دامت العبوة مغلقة.
ويحذر ديث بالقول إن الحليب المعالج بالحرارة الفائقة لا يتحمل الظروف القاسية، فإنه مصمم ليبقى تحت درجة حرارة تتراوح من 20 إلى 30 درجة مئوية، فإذا شُحنت هذه العبوات عبر خط الاستواء في سفينة تحت درجات حرارة شديدة الارتفاع، أو تُركت لفترة طويلة على رصيف الميناء في المناطق الحارة، قد تنشط بعض الجراثيم المتبقية فيه وتسبب بعض المشكلات.
ومهما زاد سمك الغلاف الذي يحفظ الحليب طويل الأجل، فقد يتغير قوامه ويتخذ أشكالاً غير معتادة، منها أنه قد يتجمد داخل العبوة، و لدى فتحها والبدء في صب الحليب يمكن أن يجد الشخص "ما يشبه الزبادي أو الكسترد، أو كتل لزجة"، على حد وصف ديث.
والسبب في ذلك يعود إلى العوامل الكيميائية أثناء عملية معالجة الحليب والتي تساهم في اكتسابه بعض السمات الغريبة. وبسبب تسخين الحليب لدرجات حرارة فائقة ولفترة قصيرة، يتغير تركيب البروتينات التي يحتوي عليها، مما يؤدي إلى انفصال بروتين مصل اللبن ويتحول إلى خيوط رخوة.
وعندما يتعرض الحليب للتسخين تحت درجة حرارة فائقة الارتفاع، يحدث تفاعل يعرف باسم "تفاعل ميلارد" بين البروتينات والسكريات التي يحتوي عليها. ويعد "تفاعل ميلارد" أحد أشكال التفاعل غير الإنزيمي الناجم عن تفاعل كيميائي بين الأحماض الأمينية والسكريات المختزلة وتؤدي بفعل الحرارة إلى إعطاء لون و رائحة مميزة تدل على نضج المخبوزات.
وقد اشتهر "تفاعل ميلارد" بأنه يكسب الكراميل والخبز المحمص وغيرها من المأكولات البنية الكثيرة، ذاك المذاق الشهي.
وبسبب تسخين الحليب تتفكك مجموعة من الإنزيمات، إلا أن إنزيم البلازمين البروتيني، لا يتفكك في المعتاد ما لم يعالج الحليب مسبقا للقضاء على هذا الإنزيم. كما يؤدي التسخين إلى ظهور مجموعة من مركبات الكبريت، التي تُكسب الحليب المعالج حديثا رائحة نفاذة شبيهة برائحة البيض، ولكنها سرعان ما تزول بعد نحو أسبوع واحد.
وإذا ظل إنزيم البلازمين نشطا في الحليب، فإنه سيُحلل البروتينات العديدة فيه، ويعطلها عن أداء أدوارها المختلفة، ويتيح لها الفرصة لتكوين روابط فيما بينها، ويبدو أن هذا هو السبب في تكوّن الكتل اللزجة في الحليب المعالج حراريا.
ويشير ديث إلى أن تفاعل ميلارد على الأرجح هو السبب في اكتساب الحليب المعالج حراريا مذاقا ألذ من الحليب المبستر، كما أنه يكون في أغلب الأحيان أكثر بياضا منه. ويبدو أن هذا البياض مصدره بروتينات مصل اللبن وغيره من المواد المنتشرة في الحليب التي تعكس الضوء. أما جزيئات الكبريت فتجعل الكثيرين يشعرون وكأنهم يتذوقون شرابا مطهوا.
ورغم أن مذاق الحليب المعالج حراريا قد لا يستسيغه البعض، فإنه تصدر قائمة الألبان الأكثر مبيعا في بعض البلدان في العالم. ومثال على ذلك فقد تهافت الصينيون على الحليب في الأونة الأخيرة، ما أدى إلى انتشار الحليب المعالج حراريا في جميع ربوع الصين.
ويقول ديث: "زاد الإقبال على الحليب بنسبة 10 في المئة سنويا على مدار سنوات عديدة، وتُباع كميات هائلة من الحليب المعالج حراريا في الصين".
ويعود أحد أسباب تنامي صناعة الألبان في بعض البلدان، مثل أستراليا ونيوزيلندا وألمانيا، إلى تزايد حجم صادرات الألبان طويلة الأجل إلى الصين.
ولكن من أحد عيوب الحليب طويل الأجل أنه لا يصلح لتصنيع الأجبان. وتتكون عملية تصنيع الجبن من خطوتين، أولا تكسير البروتين باستخدام إنزيم "الرنين"، ثم تكتل الحليب للحصول على خثارة اللبن.
ويقول ديث إن الحليب المعالج حراريا تنتشر فيه بروتينات مصل اللبن الرخوة التي تغير تركيبها وتفقد خواصها الطبيعية، ولهذا ربما تعيق تخثره، على عكس الحليب المبستر بالطرق المعتادة، الذي تتغير فيه تركيبة بروتين مصل اللبن بنسبة تتراوح بين خمسة إلى عشرة في المئة فقط، ولهذا لا تعيق تخثره.
وقد حاول ديث تصنيع الجبن من الحليب المعالج حراريا من قبل، بمساعدة أحد الباحثين، وأخضعا هذا الحليب لجميع الأوضاع التي تستخدم في تصنيع الجبن، ولكن جهودهما لم تؤد إلى نجاح يُذكر.
ويتذكر ديث قائلا: "ذهبت إلى الغرفة ذات صباح ووجدت الحليب بدأ يتخثر بعد أن تركت الغرفة في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. يتحول الحليب الطبيعي إلى جبن بعد ساعتين، ولكن الأمر استغرق 11 ساعة لأحصل على شيء يشبه الجبن".
واستطرد قائلا: "ولكنني أظن أنه لا يزال ثمة مجال للبحث في كيفية تصنيع الجبن من الحليب المعالج حراريا". ولكن هذا الجبن سيكون أقرب إلى الجبن الذي يعرف باسم 'الجبن القَرِيشُ 'الذي يحتوى على نسبة عالية من الرطوبة.
ولكن مذاقه لن يصبح أطيب مع مرور الوقت، لخلو الحليب المعالج حراريا من الإنزيمات النشطة.