د. إبراهيم أبراش لـ(اليوم الثامن):
مقالات المشكلة لا تكمن فقط في آلية التسوية ورعايتها
بعد ربع قرن من المراهنة على عملية التسوية السياسية برعاية أمريكية ووصول المراهنة على الأمم المتحدة وخصوصا مجلس الأمن للحصول على قرار بالاعتراف بفلسطين دولة تحت الاحتلال لطريق مسدود ، وبعد انقلاب إدارة ترامب على مرجعيات التسوية وعلى الشرعية الدولية وانحيازها الكامل لجانب إسرائيل ... وجهت القيادة الفلسطينية أنظارها للبحت عن آلية جديدة تتمثل في الدعوة لمؤتمر دولي للسلام ووسيط دولي جديد مع استمرار المراهنة على الأمم المتحدة .
استمرار اللقيادة الفلسطينية في المراهنة على الشرعية الدولية وآلياتها لحل النزاعات الدولية وعلى وسيط جديد للتسوية دون مراجعة وتقييم لمجمل السياسة الفلسطينية منذ أوسلو إلى الآن يطرح تساؤلات عميقة عما يمكن تحقيقه من الشرعية الدولية وما إن كانت المشكلة تكمن فقط في واشنطن كراع غير محايد ؟ .
دون التقليل من أهمية الدبلوماسية الدولية وضرورة التواجد في المحافل الدولية ، ودون تغافل لأهمية رفع راية السلام والمطالبة بتسوية سياسية عادلة ، إلا أنه يجب التوقف والتفكير بالنقاط التالية : إن للعمل الدبلوماسي والشرعية الدولية حدودا لا تتجاوزانها ، وفي سياق كل حركات التحرر العالمي كان العمل الدبلوماسي والدعم الدولي عاملا مساعدا وليس مقررا في نيل الحرية والاستقرار . العامل المُقرِر في نيل الحرية والاستقلال هو مقاومة الشعوب للاحتلال لدرجة تشعر هذا الأخير بأن احتلاله مُكلف وأن خسائره أكثر بكثير مما قد يجنيه من احتلاله ، بالإضافة إلى ما يترتب عن حالة التصادم بين الشعب الخاضع للاحتلال ودولة الاحتلال من تهديد للاستقرار والسلام العالمي ولمصالح الدول الكبرى الأمر الذي يدفعها للتدخل لحل الصراع .
القضية الفلسطينية حاضرة دوليا أو مدولة منذ 1947 عندما صدر قرار التقسيم بل قبل ذلك مع صك الانتداب على فلسطين في عهد عصبة الأمم ، وكانت اللحظة الفارقة والمتميزة لحضور فلسطين كقضية سياسية على اجندة الأمم المتحدة عندما استقبلت الجمعية العامة للأمم المتحدة الرئيس أبو عمار عام 1974 ، استقبلته بصفته رئيس منظمة سياسية تمثل حركة تحرر وطني ترفع شعار تحرر كل فلسطين بالعمل العسكري والسياسي معا وليس بأي صفة أخرى ، وما ترتب على ذلك من اعتراف بمنظمة التحرير كعضو مراقب ، بعدها صدرت عشرات القرارات الدولية التي تعترف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره على أرضه .
علينا التذكير بأن قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة أعطى اليهود دولة على 50% وللعرب الفلسطينيين 45% من مساحة فلسطين أي أكثر مما يمنحنا القرار الذي صدر عام 2012 من نفس جهة إصدار القرار الأول وأكثر مما يأمل المفاوضون الفلسطينيون اليوم من أية تسوية جديدة ، فسقف مطلب القيادة الفلسطينية اليوم دولة تحت الاحتلال على مساحة 22% .
تراجُع البعد الدولي للقضية واستبعاد الشرعية الدولية بدأ مع اتفاقية أوسلو وبموافقة فلسطينية عندما قَبِلت منظمة التحرير المفاوضات السرية وتوقيع اتفاقية أوسلو ولواحقها ، ولم تكن هذه الاتفاقيات اتفاقيات دولية بل اتفاقيات ثنائية يحكمها مبدأ (العقد شريعة المتعاقدين) .
علينا التذكير بأنه وطوال تاريخ الأمم المتحدة لم تنجح هذه الأخيرة في حل أي من الصراعات والمشاكل الدولية وحتى الآن فإنها فشلت في حل الصراعات الدائرة في ليبيا وسوريا واليمن والعراق وصراعات منطقة البلقان وأزمة كوريا الشمالية الخ ، كما أنها لم تستطع وقف العدوان الإسرائيلي وسياساته الاستيطانية ، وكل ما صدر عنها منذ 1947 كانت قرارات غير ملزمة ، فكيف ننتظر منها اليوم أن تحل الصراع الفلسطيني مع إسرائيل المدعومة أمريكيا .
المبالغة في تظهير النخب السياسية للمنجزات الدبلوماسية قد يؤدي لتجاهل ما يجري على أرض الواقع من فشل للنظام السياسي سواء في مواجهة الاستيطان والعدوان أو الفشل في إنهاء الانقسام .
تضخيم النخب السياسية للانجازات الدبلوماسية هدفه تضخيم وتعظيم الأشخاص القائمين على الدبلوماسية والإيحاء بأن هذه المنجزات منجزاتهم متناسين أن التأييد الدولي لفلسطين كان أكبر وأعظم بكثير مما هو متواجد الآن وأن هذا التأييد يأتي بالأساس تعاطفا ودعما للشعب الفلسطيني ومعاناته في قطاع غزة والضفة واستنكارا للإرهاب والعدوان الإسرائيلي المتواصل عسكريا في قطاع غزة وفي الضفة من خلال الاستيطان والتهويد ،و بالتالي الفضل يعود للشعب وليس للنخب السياسية .
يبدو أن بعض مكونات النخب السياسية الذين تسللوا لمركز القرار تبحث عن انتصارات وهمية أو رمزية لُتخفي وصول خياراتها لطريق مسدود ولتكسب مزيد من الوقت لتستمر في مواقعها المربحة والمريحة لأشخاصهم وعائلاتهم ولشبكة المصالح والارتباطات الداخلية والخارجية التي تشكلت خلال ربع قرن من الزمن ، موظفة في ذلك غياب البدائل الوطنية الجادة وفزاعة حماس وتجربتها الفاشلة في قطاع غزة وارتباط حياة الشعب بالرواتب وما تتيحه السلطة التي يسيرونها من متطلبات للمواطنين تلبي الحد الأدنى من ضروريات الحياة .
الممكن ليس بديلا عما يجب أن يكون ،حيث ترى القيادة السياسية أن ما تقوم به يندرج في إطار سياسة تحقيق الممكن أو أن السياسة هي فن الممكن وأنه في ظل الأوضاع العربية والدولية الراهنة لا يمكن تحقيق أكثر من ذلك ! . وهنا يجب التأكيد بأن تحقيق الممكن ليس بديلا عما يجب أن يكون ، ولا يمكن أو يجوز استمرار النخب السياسية في تبرير عجزها وفشلها بالقول بأن هذا هو ما يمكن تحقيقه ، قد يكون ما يمكن تحقيقه في ظل استمرار نفس تركيبة النظام السياسي ونخبه وفي ظل سياسة المراهنة على الخارج ، ولكن في حالة البحث عن خيارات أخرى وخصوصا ممكنات وقدرات الشعب وفي حالة تغيير النخب وإعادة استنهاض الحالة الوطنية فإن حدود الممكن تتوسع كثيرا .
إن استمرار اشتغال القيادة الفلسطينية في حدود الممكن وتطويع القضية الفلسطينية لحسابات موازين قوى أنية مقابل اشتغال إسرائيل وبالقوة الغاشمة على فرض سياسة ما يجب أن يكون أدى لتراجع استراتيجي في الجانب الفلسطيني .
خطاب الأخلاق والشرعية الدولية لوحده لا يمكنه مواجهة السياسة الواقعية التي تنتهجها إسرائيل وكل كل العالم ، حتى الدول المتعاطفة مع عدالة القضية الفلسطينية قد يردوا علينا بخطاب اخلاقي وبالتمسك بالشرعية الدولية ولكنهم في النهاية سينحازون لمصالحهم وسيتعاطون مع موازين القوى القائمة .
الأمم المتحدة والنظام الدولي بشكل عام ليست نظاما ديمقراطيا يقوم على حكم الاغلبية وخضوع الاقلية بل مؤسسة أو نظام قائم على توازن القوى والمصالح وسيطرة الدول العظمى ، لذا فإن اعتراف غالبية دول العالم بالدولة الفلسطينية لن يتحول لواقع أو أمر ملزم حسب المنطق الديمقراطي .
يجب التذكير بأن روسيا الاتحادية والاتحاد الاوروبي والأمم المتحدة كانوا جزءا من الرباعية الدولية التي ترعى عملية التسوية منذ 2002 ،بالإضافة للولايات المتحدة الامريكية ، ومع ذلك لم يفعلوا شيئا وتركوا لواشنطن التحكم في مسار المفاوضات والتسوية .
صحيح أن واشنطن وسيط غير نزيه وغير محايد ولكن المشكلة لا تكمن هنا فقط ، فالوسيط يجب أن يكون محايدا وقادرا في نفس الوقت ،ولا يبدو أن أي طرف دولي قادر على الحلول محل واشنطن ،وكل من روسيا الاتحادية وفرنسا اعلمتا القيادة الفلسطينية بأنه لا يمكن تجاوز واشنطن بل إن مصر والأردن أعلنتا بوضوح أن لا بديل عن واشنطن في رعاية عملية التسوية .
حتى مع تواجد وسيط نزيه ومحايد وقادر وآلية بديلة عن اتفاقات أوسلو فالأمر يحتاج لتغيير في موازين القوى وفي الاستراتيجية الفلسطينية للمفاوضات ولطاقم المفاوضات ،فلا يُعقل أن الذين فاوضوا طوال ربع قرن وفشلوا أن يعودوا مجددا لطاولة المفاوضات.
وأخيرا وحتى تكون الجهود الدبلوماسية ذات جدوى فإنها تحتاج إلى جبهة وطنية موحدة . في هذا السياق وفي ظل التحديات الكبرى على كافة المستويات وقبل انعقاد المؤتمر الدولي للسلام الذي طالب به الرئيس أبو مازن في خطابه في مجلس الأمن يومه الثلاثاء 20 فبراير فإن الأمر يحتاج لسرعة انهاء الانقسام وتشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة طوارئ تهيئ الأوضاع لانتخابات خلال فترة لا تزيد عن ثلاثة أشهر ، مع توافق وطني بأن الحكومة التي ستتشكل بعد الانتخابات تكون حكومة وحدة وطنية بغض النظر عن الحزب الفائز أو نسبة ما يتحصل عليه من الأصوات .