فاروق يوسف يكتب:
لغز البغدادي الخفي
كانت مهمة ذلك الرجل النكرة محصورة بإلقاء خطاب، كان بمثابة إعلان حرب انتظرته جهات عالمية كثيرة لتبدأ من بعده حربها على من وضعتهم في قائمة الأعداء.
اختفى أبوبكر البغدادي، بالرغم من أن تنظيمه (داعش) لا يزال عاملا، كما تزعم الدوائر الاستخباراتية والعسكرية المختصة بشؤون الإرهاب. لم تعد هناك حاجة كما يبدو إلى زعيم، بل لم تعد هناك حاجة إلى تنظيم منضبط. في العراق على وجه الخصوص صارت كلمة “داعش” صفة تطلق على كل جماعة معترضة أو متمردة أو غاضبة.
الذين يُقتلون هناك عن عمد أو عن طريق الخطأ هم دواعش من وجهة نظر الحكومة التي جاءت الحرب على الإرهاب منسجمة مع ضياع بوصلتها الوطنية. لا تملك السلطات العراقية وقتا للبحث عن زعيم التنظيم الإرهابي.
ولأن الجماهير تنسى في ظل الأزمات المعيشية الخانقة، فإن أحدا لم يعد يذكر البغدادي، الرجل الذي ألحق تنظيمه هزيمة مخزية بالقوات العراقية من غير أن يطلق رصاصة واحدة. الدمية التي ألقت خطابا تسبب في ما بعد في هدم المسجد الأثري بمئذنته الحدباء انتقاما، تحولت إلى شبح.
بالمقارنة مع مصير البغدادي الغامض، فإن قرارا أميركيا كان قد اتخذ قبل سنوات قضى بقتل أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة. كان من الممكن أن لا يُقتل الإرهابي رقم 1. إذ أن حياته، كما يُفترض استخباريا، أهم من موته الذي سيكون بمثابة طي صفحة لم يُسمح لأحد بقراءتها. غير أن هناك مَن قرر التضحية به لكي يظل لغزه أبديا.
في ظل نقص وتضارب المعلومات عن الرجل الذي ألقيت جثته في مياه البحار البعيدة، فإن هناك من يفسر لغز مقتله الذي لم يكن ملزما من جهتين. من جهة كان ضروريا أن يتحول بن لادن إلى شهيد بالنسبة للجماعات المضللة جهاديا. من جهة أخرى كانت هناك رغبة الدوائر الاستخبارية في أن يتحول بن لادن إلى رمز لعدو يُحتمل ظهوره في أي لحظة.
بحجم غزوة نيويورك سيكون حجم بن لادن الذي أخفي أثره من العالم الواقعي ليكون جزءا من عالم افتراضي يمكن أن تُضاف إليه المزيد من الحكايات. رمزية بن لادن لم يحز عليها البغدادي وإن كان ما أنجزه يفوق بكثير ما أنجزه سلفه القتيل.
لذلك كان ضروريا أن يُقتل بن لادن لتكتمل دائرة أسطورته. أما البغدادي فبالرغم من أنه أقام دولة الخلافة ووضع العراق على مفترق طرق لن يغادره، ومن أجله شنت حرب عالمية على الإرهاب، قتلت الآلاف وشردت الملايين ودمرت مدنا كانت عامرة فإنه ظل خارج دائرة القتل. لقد أشاعت الحكومة العراقية غير مرة أن الرجل قد قُتل أو جُرح، غير أن تلك الأخبار سرعان ما يتم التراجع عنها بسبب عدم استنادها إلى دليل مادي. الأهم من ذلك أن الولايات المتحدة وهي المعنية بشؤون الحرب المفتوحة على الإرهاب لم تظهر حماسة تُذكر بمسألة البحث عنه وتصفيته كما فعلت مع بن لادن. وهو أمر يثير الكثير من علامات الاستفهام. ألأنه مجرد ممثل ثانوي تم غض الطرف عنه، في حين كان بن لادن ممثلا رئيسا لذلك توجهت الأنظار إليه؟
ولكن ذلك التصنيف يحتمل تأويلا، غالبا ما تم القفز عليه بسبب استناده إلى التكهنات والأقوال السائبة والتوقعات. غير أن الخيوط كلها تقود إلى حقيقة أن تنظيم القاعدة الذي قاده بن لادن كان جزءا من الحرب التي شنها الغرب على الاتحاد السوفييتي عن طريق جماعات مسلحة اختير لها مبدأ الجهاد واجهة، أما جوهرها فيكمن في آليات الصراع بين قطبي العالم.
أما بالنسبة لداعش فإن ذلك التنظيم كان وليد فكرة ساذجة عن إسلام عدو، جرى تسويقها من أجل أن يحل ذلك العدو محل الإسلام. كان اختراع ذلك التنظيم ضروريا فقط لملء الفراغ التصويري. قبل داعش كان قد وقع احتلال العراق. يومها مارست القوات الأميركية والشركات الأمنية الملحقة بها شتى صنوف القتل والتعذيب والإذلال في حق الشعب العراقي، أو على الأقل الجزء المناهض منه للاحتلال.
غير أن ذلك كما يبدو لم يكن كافيا لإشباع غريزة الانتقام، لذلك تم اختراع داعش ليكون الأداة الجهادية التي يتم من خلالها وبذريعتها الاقتصاص من العراقيين. لم يكن مفاجئا أن يعلن البغدادي عن ولادة دولته من الموصل. كان أبوبكر البغدادي مجرد ممثل في مسرحية لم تكن في حاجة إلى بطلها في فصولها اللاحقة.
كانت مهمة ذلك الرجل النكرة محصورة بإلقاء خطاب، كان بمثابة إعلان حرب انتظرته جهات عالمية كثيرة لتبدأ من بعده حربها على من وضعتهم في قائمة الأعداء. وفي ذلك تلتقي إيران والولايات المتحدة. أبوبكر البغدادي ليس لغزا إلا إذا قررنا أن نغمض عيوننا عما أحاط به من حقائق.