عدلي صادق يكتب:

حفنة من تراب

تدهشنا سيرة الرجل الذي كان أول من تقلد أمر القضاء في فلسطين بعد ظهور الإسلام. إنه عبادة بن الصامت، الذي عاش في قلب القدس، ومات ودُفن في الرملة. قال عنه الفاروق عمر، إنه بألف رجل!

كان لعبادة، من بين مآثره الكثيرة، موقف صارم من نفاق الخطباء للولاة في صدر الإسلام.

وأصل النفاق في لغة العرب، يتعلق بفتحتي نفق الجرذ أو سواه، فإذا انكشف من واحدة أفلت من الأخرى. والفتحتان، مجازاً، تعادلان الوجهين واللغتين والرأيين، في سياقات الرياء.

وحدثت في رفقته لمعاوية إلى بلاد الشام، مشادات بين الرجلين. وقف الأول يرقب سلوك الثاني، فرآه باذخا بعيدا عن الزهد، فغضب لأنه يرى أن من يُسرف على نفسه، يفارق روح الرسالة، ومن يُقرّب المداحين منه، يخادع الناس، ويقدم المنافقين ويبُعد الناصحين. قال لابن العاص: “والله لا أسكانك بأرضٍ”. ولما عاد إلى الخليفة عمر في يثرب، سأله “ما الذي أقدمك” فروى له كل ما أنكره على معاوية، وأجابه عمر قائلاً: “ارحل إلى مكانك، فقبّح الله أرضًا لست فيها وأمثالك، فلا إمرة له عليك”!

في العبارة الأخيرة، كان النطق باستقلالية القضاء وسلطته، وبوجاهة الاعتراض، والتسليم باختلاف طبائع الناس وسلوكها، وبأن الجريمة والمروق متوقعان في كل زمن، لذا وُجد القضاء الذي لا يسمو بغير القاضي النزيه. وبدوره كتب معاوية إلى من يرجو عونه، وهو عثمان: “إن عُبادة بن الصامت قد أفسد عليّ الشام وأهله، فإما أن تَكُفَّه إليك، وإما أن أُخلي بينه و بين الشام”.

كان ذلك لأن الرجل ظل على دأبه، إذ كان يوماً في صحبة معاوية، الذي أذن لرجل أن يخطب ويمتدحه، فقام عبادة وفي يده حفنة تراب، حشاها في فم الخطيب، فغضب معاوية. رد عبادة: “إنك لم تكن معنا حين بايعنا رسول الله بالعقبة على السمع والطاعة، في منشَطِنا ومكرهِنا ومكسلنا، وأثره علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم بالحق حيث كنا، لا نخاف في الله لومة لائم، وقال رسول الله، إذا رأيتم المداحين، فاحشوا في أفواههم التراب”!

الخطباء المنافقون، منذورون للضلال. فكم ألف طن من تراب، في أوطاننا، تكفي لحشو أفواههم. وليس أرجح عقلا من بين ولاة الأمور، من يكتفي من الخطيب بالدعاء له بالهداية وأن يُرزق بالبطانة الصالحة، وذلك دعاء مستنير، يُقرُ ضمناً بأن هناك مشكلة في البطانة، وإن لم يلـمّح إلى أن هناك مشكلة في ولي الأمر نفسه!