د. ابراهيم ابراش يكتب:

مظاهرات رام الله وانقلاب حماس وحُكم العسكر

 نتفهم كل المسيرات والمظاهرات لإنهاء الانقسام وإعادة النظر في مسألة الحصار على غزة لأنه بالأساس حصار جائر وظالم، وإن كان المحاصِرون برروا موقفهم بداية بأنه موجه ضد حركة حماس إلا أنه في الحقيقة ومع عدم تبرئة حركة حماس من المسؤولية على تسهيلها إن لم يكن مشاركتها في المخطط، فقد تم توظيف سيطرة حماس على قطاع غزة والحصار لتنفيذ مخطط مُعد مسبقا لتدمير المشروع الوطني وفصل غزة عن الضفة وتدفيع أهالي القطاع ثمن مقاومتهم وتصديهم للاحتلال، وجاءت إجراءات السلطة قبل عام بحق غزة وخصوصا كيفية تدبيرها لموضوع الرواتب لتزيد الأمور تعقيدا حيث بدت السلطة وكأنها أحد أطراف حصار غزة وبالتالي مسؤولة عما يعانيه القطاع من أوضاع مزرية.

لقد كتبنا وحذرنا كثيرا مما يُحاك من مخططات لفصل غزة عن الضفة وأن تغطي غزة وحصارها ومشاكلها على القضية الوطنية، وأحِيلُ فقط لأحد مقالاتي في 12 مارس 2008 ويحمل عنوان "القضية الغزاوية أم القضية الفلسطينية" حذرنا فيه مما يجري اليوم. وللأسف فإن ما حذرنا منه يحدث اليوم، وفي هذا السياق نبدي الملاحظات التالية:

من حيث المبدأ فإن ما وصل إليه النظام السياسي بشكل عام يحتاج لحراك شعبي كبير في الضفة وغزة لأن ترك الأمر للأحزاب وللسلطتين في الضفة وغزة طوال أحد عشر عاما أوصلنا إلى ما نحن عليه، وليس كل من يتظاهر في الضفة أو غزة مدفوعا بنوايا خبيثة أو يخدم مخططات أجنبية.

إن كنا لا نشكك بنوايا كل المتظاهرين في ساحة المنارة في رام الله وتفهمنا لتعاطفهم مع الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة وإحساسهم بحالة قهر وألم وهم يتابعون ويشاهدون جرائم الاحتلال في قطاع غزة وصور المعاناة لأهالي قطاع غزة الذين شاركوا شعبهم في حمل شعلة النضال وسطروا ملاحم مشرفة في مواجهة جيش الاحتلال، وإن كنا أيضا نرفض إقدام الأجهزة الأمنية على قمع المظاهرات بعنف غير مبرر وخصوصا أن المتظاهرين كانوا مسالمين، إلا أن الأمر يحتاج لوقفة مراجعة متأنية لموضوع رواتب موظفي غزة ولحصار غزة وكيفية التعامل معهما بحيث لا يتم اجتزاء الموضوع من سياقه الوطني العام.

المظاهرات في رام الله وإن كانت تحت عنوان التعاطف مع معاناة أهالي قطاع غزة إلا أنها تتضمن حالة غضب على أداء السلطة الفلسطينية والحكومة تحديدا، سواء لكيفية إدارة ملف الانقسام أو كيفية إدارة ملف المواجهة مع إسرائيل ولغياب أية رؤية أو استراتيجية مستقبلية.

في نفس الوقت لا نستبعد وجود أطراف مُحرِضة تريد خلط الأوراق وإضعاف السلطة والرئيس أبو مازن، ودون التشكيك بنوايا صادقة عند كثيرين من الذين خرجوا في المظاهرات إلا أنه يجب التوقف عند تزامن هذه المظاهرات مع المظاهرات التي تجري في الأردن وما يتم الإعداد له لتمرير صفقة القرن.

إجراءات السلطة تجاه قطاع غزة بدلا من أن تؤدي للتضييق على سلطة حماس، حيث لحماس مصادر تمويلها الثابتة ولا أحد من حماس يجوع، ودفعها للتراجع عن انقلابها والتجاوب مع مبادرة الرئيس، بدلا من ذلك أدت لمزيد من معاناة المواطنين وخصوصا أنصار وأتباع السلطة وأبناء حركة فتح، كما أن هذه الإجراءات دفعت حركة حماس نحو مزيد من التصلب مستقوية بحالة الغضب في قطاع غزة وهي حالة تغذيها مواقف فصائل منظمة التحرير نفسها بل وحركة فتح في القطاع المنددة والرافضة لهذه الإجراءات.

الارتجالية والتخبط في الإجراءات ضد قطاع غزة وعدم توضيح السلطة لهدفها من الإجراءات، والمهزلة التي جرت حول سبب قطع الرواتب وهل هو فني أم عجز مالي سيتم حله قريبا، أم موقف من الحكومة لا يوافق عليه الرئيس الذي أعطى تعليمات للحكومة بحل مشكلة الرواتب ولم تستجب الحكومة التي هي حكومة الرئيس كما يقول الرئيس! كل ذلك فاقم من حالة الغضب على الحكومة والسلطة.

الدعوات والتحركات الشعبية الأخيرة لكسر الحصار عن غزة وإن كانت صادقة وتنطلق من دوافع وطنية إلا أنها قد تتقاطع مع مخططات ومشاريع لرفع الحصار عن قطاع غزة وقد يتم توظيفها لتوجيه الأمور ليكون ثمن رفع الحصار أسوء من الحصار ذاته، وخصوصا عندما تركب موجة التباكي على الأوضاع في غزة والمطالبة برفع أو تخفيف الحصار أطراف مثل واشنطن ودول أوروبية وبعض الدول العربية وبتنسيق مع إسرائيل وهي الأطراف التي كانت وراء الانقسام والحصار منذ البداية.

 التعامل مع مسألة حصار غزة ومحاولة تخفيفه أو إيجاد حلول له خارج إطار المصالحة الوطنية الشاملة التي تُعيد الوصل بين الضفة وغزة كوحدة جغرافية وسياسية وبما يحافظ على الهوية الوطنية للقطاع ودون التنسيق مع السلطة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية حيث الأولى صاحبة الولاية القانونية على قطاع غزة والثانية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وسكان غزة جزء من هذا الشعب، إن حدث ذلك فسيؤدي لتكريس الانقسام وفصل غزة عن الضفة.

من مخاطر رفع الحصار أو تخفيفه بعيدا عن المصالحة الوطنية الشاملة ما لحظناه من خلال متابعتنا لعدد المغادرين وعدد العائدين في كل المرات التي تم فيها فتح معبر رفح وخصوصا خلال شهر رمضان، حيث أنه في كل يوم يغادر المئات بينما العائدون بالآحاد وفي أحد الأيام كان عددهم اثنين فقط؟ لو استمر الأمر على هذه الوتيرة لأشهر قادمة فسيتم تفريغ القطاع من سكانه وخصوصا المؤهلين والكوادر وحملة الشهادات ورجال الأعمال، فهؤلاء من يستطيعون الحصول على تأشيرات للدول الأجنبية أو دفع نفقات السفر والإقامة في الخارج ودفع الرشاوى مقابل وضع أسمائهم في كشوفات السفر، وسيبقى في القطاع عامة الشعب من الفقراء والعاطلين وحملة السلاح، فماذا بعد ذلك؟

قمع مظاهرات رام الله الأخيرة والقبضة المشددة للأجهزة الأمنية في الضفة وكذا قمع مظاهرات سابقة في غزة وبعنف أشد من طرف الأجهزة الأمنية لحركة حماس يفضح زيف الحكم الديمقراطي عند الطرفين ويؤكد أننا نعيش في غزة والضفة في ظل "حكم العسكر"، وللأسف وللمفارقة أنه "حكم عسكري وطني" خاضع لحكم عسكري أكبر وأخطر وهو حكم عسكر الاحتلال.