د. ابراهيم ابراش يكتب:

تجاوز الخلافات الفلسطينية الداخلية لمواجهة العدو المشترك

بسبب تراكم المعرفة نتيجة تراكم الخبرة المستمدة من تجارب الشعوب والدول في السلطة والحكم فقد ظهر علم السياسة الذي يُسمى علم الدولة وعلم السلطة، بمعنى أن سَوس أمور الدول والمجتمعات الكلية لم يعد خاضعا للرغبات الشخصية للحاكم، أو لمرجعيات دينية متوهَمة لا علاقة لها برب الأرباب ويتم تفسيرها حسب مشيئة الحاكم، ولم تعد تخضع لمقتضيات تحددها حسابات الربح والخسارة عند الجماعات الأهلية المتصارعة على السلطة والحكم - قبائل، طوائف، أحزاب، وجماعات مصالح - بل تخضع لحسابات المصلحة الوطنية العليا كما يحددها الدستور والقوانين الناظمة للمجتمع وبما يمليه العقل الجمعي للأمة والذي إن لم تعبر عنه القوانين والمؤسسات الرسمية فهو موجود ويمكن تلمسه عند الأغلبية الصامتة.

السياسة كإدارة حكيمة للمجتمع والسلطة، وتحديدا في المجتمعات التي ارتقت في رؤيتها للسياسة لتتماهى مع مفهوم الديمقراطية والحكم الرشيد، وضعت قواعد لإدارة الصراعات والخلافات الداخلية تختلف عن إدارتها لصراعاتها وخلافاتها مع الخصوم والأعداء الخارجيين، حيث تطبق في آلية إدارة الخلافات الداخلية مبدأ "الاختلاف في إطار الوحدة" بحيث تختلف الأحزاب ومكونات المجتمع وتتصارع على المصالح والسلطة ولكن في إطار وحدة وتوافق الجميع على مرجعيات وثوابت الأمة فهذه خطوط حمراء غير مسموح بتجاوزها، أما في حالة وجود صراع أو مواجهة مع خصم خارجي فإن كل مكونات الأمة تتوحد حول قيادة واحدة وهدف واحد وتُجمد خلافاتها الداخلية لمواجهة العدو الخارجي وتلتزم بمبدأ "الوحدة الوطنية في مواجهة أعداء الأمة".

إن كان علم السياسة الحديث توصل لهذه القاعدة في السلطة والحكم وكيفية تدبير أو إدارة الصراعات والتمييز بين الصراعات الداخلية والخارجية، وإن كانت الدول الديمقراطية والمتحضرة اليوم توظف هذه القاعدة كما أن حركات التحرر الوطني طبقتها عبر التاريخ، فإن هذه القاعدة موجودة في أمثالنا الشعبية من خلال المثل "أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب" كما يمكن استخلاصها من الحديث النبوي الشريف "أنصر أخاك ظالما أو مظلوما".

لا نريد أن نُطيل الحديث من خلال استحضار تجارب لدول وحركات تحرر وطني تناست خلافاتها الداخلية والتي وصلت في بعض مراحلها لحرب أهلية طاحنة وتوحَدت كل مكونات الشعب عندما شعرت بخطر وجودي على الوطن وأن قوى خارجية تحاول توظيف الخلافات الداخلية لخدمة مشاريعها وأجندتها الخاصة، ولنا في إسرائيل عبرة سواء من خلال قدرتها على تجاوز كل الخلافات والتباينات الداخلية العرقية والطائفية والسياسية الخ ووقوف الجميع موحدين حول قيادتهم لمواجهة ما يعتبرونه خطرا وتهديدا مصيريا وهم الفلسطينيون ومن يناصرهم أو من خلال محاولاتها المستمرة لتوظيف الخلافات الفلسطينية الداخلية لخدمة سياستها ومخططاتها الاستراتيجية كما جرى بتوظيفها هذه الخلافات لتمرير مخططها بفصل غزة عن الضفة وتكريس الانقسام.

للأسف في حالتنا الفلسطينية الأمور تسير عكس منطوق علم السياسة وفي تجاهل لتجارب الدول وحركات التحرر وبما يتعارض مع العقل والمنطق والمصلحة الوطنية. حيث أصبحت الخلافات الداخلية وخصوصا الصراع على السلطة أهم من مقتضيات الوحدة الوطنية لمواجهة العدو الخارجي إسرائيل، وأصبحت الخلافات الداخلية ورقة قوية بيد إسرائيل وأصحاب الأجندة والمشاريع الإقليمية يوظفونها لخدمة مشاريعهم على حساب المصلحة الوطنية الفلسطينية، وفوق كل ذلك فإن الحسابات الحزبية الضيقة أصبحت تبدد المنجزات التي حققها الشعب بدمائه وتضحياته وصبره وصموده عبر عقود، وما يمكن تحقيقه من انجازات لو تم تجاوز الخلافات الداخلية ووقوف الجميع موحدين خلف عنوان موحد لمواجهة إسرائيل ولو في حدود المحافل الدولية ومخاطبة العالم الخارجي.

وفي هذا السياق ولأجل المصلحة الوطنية العليا ودون الدخول في التفاصيل حول الخلافات الفلسطينية الداخلية حول السلطة والحكومة والانقسام والمصالحة الخ، هناك عنوان رسمي واحد للشعب الفلسطيني وهو منظمة التحرير الفلسطينية التي يعترف بها كل العالم كممثلة للشعب وينتظر العالم منها من خلال الرئيس أبو مازن الموقف الفلسطيني من القضايا الأساسية للصراع مع إسرائيل، والرئيس أبو مازن سيخاطب العالم من خلال الجمعية العامة بعد أيام ليس بصفته رئيس حركة فتح بل بصفته رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ومن المتوقع خلال هذا الخطاب أن يكشف الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني ويُعيد التأكيد على الحقوق السياسية التي تم التوافق عليها وطنيا وخصوصا الحق في دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية وحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى مدنهم وقراهم التي هُجروا منها، كما من المتوقع أن يرفض صفقة القرن وكل محاولات تصفية القضية الفلسطينية ويؤكد على تمسكه بخيار السلام العادل، فما الذي يمنع تجاوز كل الخلافات والمناكفات السياسية ولو مؤقتا ونقف سويا خلف الرئيس وهو يخاطب العالم ومن خلال ذلك نبلغ العالم بأن كل الشعب يقف موحدا حول الرئيس في مطالبه العادلة التي تعبر عن الإجماع الوطني.

ليست هذه دعوة لمناصرة طرف فلسطيني على آخر بل دعوة لتحكيم العقل وتغليب المصلحة الوطنية على المصالح الحزبية وليعرف العالم بأن الفلسطينيين وإن اختلفوا في كيفية إدارة شؤونهم الداخلية إلا أنهم موحدون في مواجهة العدو الأساسي إسرائيل وأن لهم هدفا مشتركا وواضحا لا خلاف عليه.

هذا لا يمنع التأكيد بأن السياسة وخصوصا في حالة كالحالة الفلسطينية ليست فقط خطابات وشعارات بل ممارسة وسلوك تحدي ومواجهة على الأرض وأن العالم وهو يستمع للخطاب لا يدقق فقط في مفردات الخطاب بل يستحضر موقع وقوة صاحب الخطاب وسط شعبه، إلا أنه في ظل الظروف الراهنة فإن كسب العالم لجانبنا يُعتبر إحدى ساحات المواجهة حتى وإن كان في سياق أضعف الإيمان.