حسن عبدالوارث يكتب:
الروزنامة.. والمؤامرة!
قررت مؤخراً التوقف عن الكتابة المناسباتية، مهما كان حجم المناسبة عظيماً في التاريخ الوطني والذاكرة الجمعية، كأعياد الثورة والاستقلال والوحدة، وغيرها من المناسبات والأعياد القومية والأممية والدينية.
قد أكتب -بين الحين والآخر- عن هذه أو تلك من المعاني والدلالات التي تحملها تلك الأيام، ولكن ليس في مواعيدها الرسمية أو المعتادة. والحق أن بعض القيم ينبغي أن تتحرر من الاطار المناسباتي أو نمط الذكرى. وهي لا يمكن أن تتجذر في وعينا وحياتنا اليومية ما دامت أسيرة قيد الروزنامة.
لماذا لا يحلو الحديث عن حقائق الثورة في حياة الشعب اليمني إلاَّ حين يهل علينا يوم 26 سبتمبر أو 14 أكتوبر؟
ولماذا لا نستسيغ الكتابة عن قيمة التحرر والانعتاق من ربقة الاحتلال إلاَّ يوم يطل علينا 30 نوفمبر أو 19 يناير؟
والوحدة، لماذا لا يروق لنا الكلام حولها وتكون للكتابة بصددها نكهة خاصة إلاَّ إذا دارت السنة على يوم 22 مايو؟
كنا -في مرحلة الطفولة والمراهقة- نذهب في رحلات مدرسية إلى المتاحف والمواقع الأثرية، فنستمع إلى محاضرات من المعنيين هناك عن بطولات أجدادنا وآبائنا في مواجهة الغزاة البرتغاليين والعثمانيين والبريطانيين..
ونذهب إلى المزارع والمصانع فنستمع إلى أحاديث تفصيلية وبيانية عن التطور الذي شهدته البلاد في مجالات التنمية المتعددة بفضل تحقق الاستقلال الوطني..
وهكذا كانت هذه القيم تترسخ في وعينا على الدوام من دون قيد مناسباتي.
حتى الاعلام الرسمي لم يكن حينها مقيداً بالمناسبات أو المواعيد الرسمية لتناول الدلالات المرتبطة بالثورة والنظام الجمهوري وويلات النظام الامامي البائد أو العهد الاستعماري المندحر، بل كان يحتفي بهذه القيم على مدار العام، لا يقف عنها الاَّ لماما..
لكن المصيبة أن القيادات الاعلامية والثقافية الرسمية صارت اليوم أكثر الناس انشداداً للقيد المناسباتي، فلا يصحون من سباتهم إلاَّ مع اقتراب حلول الذكرى، وفجأة تجد القنوات والاذاعات والصحف وغيرها من المؤسسات تصدح بالتهليل وكأنَّها فوجئت بقدومها على حين غرَّة!
وحديث المناسبات دائماً ما يكون مملاً وسخيفاً، مهما كانت قيمة الحدث الذي تطويه تلك المناسبة تحت ابطها، اذْ يغدو حديثاً لجبر الخاطر أو اسقاط الواجب، ثم بعدها يغرق الجميع في سبات عميق وطويل حتى يحين الموعد التالي.. وهكذا دواليك!
...
إن ثمة مؤامرات خبيثة تُحاك اليوم بعناية فائقة ووتيرة حثيثة بغرض تزييف تاريخنا الوطني ووعينا الجمعي، في أتون الحرب الشرسة المندلعة الآن، وقد استغل أربابها حالات الشتات والاضطراب والانهيار التي يعيشها الشعب جراء هذه الحرب وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية والأمنية، بحيث نصحو في يوم قريب جداً على تاريخ آخر ومفاهيم وطنية وعقدية وأخلاقية أخرى، كلها تدعو الى الاعتقاد بأننا وطن آخر وشعب آخر ، نعيش عهداً آخر وزمناً آخر .
وثمة أجيال في بؤرة الاستهداف، ولن تعود تدري شيئاً عن تاريخها القريب، ناهيك عن البعيد. وأولى بل أخطر أدوات هذه المؤامرة تتمثل في تغيير المناهج التعليمية، وإعادة كتابة التاريخ الوطني بنمط فكري وسياسي مغاير، وتسييد نصوص ومفاهيم دينية ومذهبية وطائفية وسُلالية وأخلاقية على صفحة الوعي الاجتماعي، لاسيما لدى النشء الجديد بل والقادم وهو بذرة الصناعة الجيدة لأية مؤامرة استراتيجية بعيدة المدى.
سيأتي يوم قريب ستسأل فيه ابنك عن ثورة سبتمبر أو أكتوبر أو استقلال نوفمبر أو وحدة مايو أو الامامة أو الاحتلال العثماني أو البريطاني أو غيرها من الأحداث التي مرت بها اليمن ودلالاتها التاريخية و و و.. فيظنك ولدك أنك تسأله عن أحداث وقعت في القرون الوسطى أو في أقصى النصف الشمالي من القارة القطبية!
لا تسخر، فهذه ليست نكتة.. بل إنها لعمري نكبة!