سمير اليوسفي يكتب:

خاشقجي !

لماذا تم اختيار قنصلية السعودية في اسطنبول لتكون مسرحاً لقتل الصحافي جمال خاشقجي، مع أنّ تركيا حليفة قطر، والدولتان تتربصان شراً بالسعودية.. ولماذا سارعت الآلة الإعلامية والدبلوماسية لإمارة قطر في اتهام محمد بن سلمان قبل التأكد من عملية القتل والبدء في التحقيق؟ وهل كان خاشقجي (وتعني صانع الملاعق بالتركية) ينوي معارضة السعودية من داخل تركيا، التي تعد موطن أجداده المهاجرين من مدينة قيصرية وسط الأناضول.. وما هي قصة الصحفيّة التركية (خديجة جنكيز) المتخصصة في الشؤون العمانية، وهل هي خطيبته فعلاً؟ وكيف فات على قتَلته الذين يفترض أنّهم مدربون على العمل الاستخباراتي، أنّ خطيبته المزعومة جاءت معه وجلست تنتظره على بُعد أمتار منهم، جوار بوابة القنصلية، قُرابة الخمس ساعات.. حتى إنّه لم يجعلها تنتظره في سيارة كما يفعل أيّ إنسان عادي مع قريبته، فما بالكم بشخص مُترف مثل خاشقجي، ومن الطبيعي أنّها كانت ستبلغ الأمن في حال اختفائه.. وهل للدول المعادية للسعودية أو المعارضين للأمير محمد بن سلمان، ممن كان لهم نفوذ في أجهزة الدولة، صلة بتصفيته؟

بحثتُ عن إجابات منطقيّة على هذه الأسئلة منذ الإعلان عن مقتل خاشقجي، ولم أَجِد غير تحليلاتٍ وتخمينات تتهم وليّ العهد بتصفيته، مع أنّ طريقة القتل المتداولة في الإعلام لا تليق بعصابة من الدرجة العاشرة.. وقليلٌ منها يتحدث عن مخطط يستهدف إغراق السعودية وإدخالها في دوامة شبيهة بما يجري في الدول التي أصابتها حُمى ثورات 2011.

أزعم أني متابع قديم لكتابات وتصريحات خاشقجي، كما سبق لي أن التقيته في أكثر من فعاليّة لاتحاد الصحافة الخليجية، ولقاءات غيرها بعد عودته لرئاسة تحرير صحيفة (الوطن) السعودية، وتحدثتُ إليه مرتين بين عامي 2008- 2010.

كان خاشقجي في تلك الفترة يُقدّم نفسه باعتباره الصحافيّ المُقرّب من دائرة الحكم في المملكة، والخبير بخبايا تنظيم القاعدة، وخفايا الحركات الإسلامية، وعلى صلة وثيقة بالأميرَين: (أحمد بن عبدالعزيز) نائب وزير الداخلية حينها، و(تركي الفيصل) الرئيس الأسبق للاستخبارات العامة.. إلى جانب زمالته وصداقته لأسامة بن لادن، وارتباطه به فترة عمله مراسلاً لصحيفة (سعودي جازيت) في أفغانستان، قبل أن يصبح بن لادن زعيماً لتنظيم القاعدة.

خلال رئاسته لصحيفة الوطن، تبنى خاشقجي حملات صحفية ضد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فسرّها خصومه على أنّها تأتي في سياق تخليه عن ماضيه المرتبط بزعيم القاعدة.. كما انتقد (الإخوان المسلمين) في مصر لفترة، ثم عاد منافحاً عنهم بعد ثورات 2011 وما تلاها.. وله وجهة نظر مغايرة للإجماع السعودي حول الحوثيين في اليمن، حيث كان يرى إمكانيّة التفاهم معهم أكثر من نظام الرئيس صالح، ويعتبرُهم أقرب إلى السعودية منهم إلى إيران.. وكتب في ذلك مقالة مع بدء عاصفة الحزم دعا فيها عبد الملك الحوثي للمسارعة إلى الحوار، واستشهد بمعلومة خاطئة مفادها أنّ بدر الدين (والد عبد الملك الحوثي) نزح إلى السعودية في ستينيات القرن الماضي مع أسرة حميد الدين، ونشط لفترة في التعليم والفتوى، وهي معلومة خلَط فيها بين بدر الدين الحوثي ومجد الدين المؤيدي. كما أنّ مقارنتَه للحوثيين بآل حميد الدين فيها من الخفّة والسطحيّة الشيء الكثير؛ لأنّ الحوثيين فصيل مُرتبط بحزب الله وتابع لإيران، وهدفهم الرئيس تقويض المملكة والقضاء عليها، وليسوا كالإماميين الملَكيين الذين اكتفوا بحكم اليمن وكانوا يَرَوْن في التمدد شمالاً خطراً عليهم. عدا ذلك لم يُعرَف عن خاشقجي معارضته لنظام الحكم في بلده، بل كان إلى ما قبل مبايعة محمد بن سلمان بولاية العهد شديد الولاء للملك والأسرة الحاكمة، وبعد ذلك ظل يؤكّد أنّ آراءه وانتقاداته ليست عدائية، وتستهدف النصح.. وهي إجمالاً ليست خطيرة ولا تحتوي معلومات مُضرة بالسعودية، حتى يصل الأمر حد تجهيز كتيبة على أعلى مستوى بتوجيه رسمي لاغتياله وتقطيع جثته بمنشار.

المؤكد أنّ قتل جمال خاشقجي بتلك الطريقة البدائية داخل القنصلية السعودية، لا يخدم المملكة، ويستهدف الملك سلمان ووليّ عهدِه أكثر مما ينفعهما، وله ملابسات أخرى غير التي يسردها الإعلام القطري التركي الإيراني. فالنظام الذي يريد قتل أحد معارضيه؛ لا يحتاج إلى استدراجه من نيويورك أو لندن إلى قنصليته في اسطنبول وإرسال كتيبة إعدام من الرياض بطائرة خاصة، يستخدِمون معدات من القرون الوسطى، مع أنّ بمقدوره التخلص منه في مكان إقامته في الولايات المتحدة، وبوسائل يصعب اكتشافها، لاسيما وأنّه يتحرك بلا حماية.. ويزداد الأمر التباساً مع معرفتنا بتغاضي المملكة عن معارضين لها (يعيشون في الخارج) كانوا ولا يزالون أشدّ ضراوة وعُنفاً في انتقاداتهم، ومنهم سعد الفقيه ومحمد المسعري اللذان لم تتعرض لهما السعودية ولو بشوكة!

انتظرت أمس بفارغ الصبر خطاب أردوغان الذي روّجت قناة الجزيرة أنّه سيجيب على كل الأسئلة، ويكشف الحقيقة بالوثائق والتسجيلات.. لكنه لم يقل شيئاً غير أنّه على علم بالمخطط، وعرفَ بوصول ثلاثة قال إنّهم رجال استخبارات سعوديون قبل مقتل خاشقجي، و15 آخرين فور وصولهم.. ولم يقل لنا لماذا سهّل لهم التحرك والقتل والعودة بسلامة الله وحفظه طالما أنّه كان يعرف بمخططهم منذ ساعة وصولهم.