هدى العطاس تكتب لـ(اليوم الثامن):

هل سيحاك من اشلاء خاشقجي رداء للتطبيع

كنت اتجاذب اطراف حديث مع خبير اقتصادي حول مؤتمر (دافوس الصحراء) الذي ينعقد في الرياض، وكان الحديث عن أهميته وعن كبريات الدول والشركات العالمية التي ستحضره –كان هذا قبل أن يعلن البعض انسحابه على خلفية قضية مقتل الصحفي جمال خاشقجي، وفي معرض التجاذب قلت لذاك الخبير غامزة: ولكن هناك (جهة) تتبجح انها تقود العالم وتقول عن نفسها أنها قوة اقتصادية تتحكم فيه، لن تستطع ان تشارك ولن تجروء على طلب الحضور لأن المؤتمر يعقد في المملكة العربية السعودية، فرد مبتسما: تقصدين اسرائيل! ولكنها ستشارك عبر وكلاء.
فرددت عليه وهذا مايغص اسرائيل ويقض مضجعها! اسرائيل الكيان غير المؤصل. الذي يبحث عن تأصيل له في محيطه بل في العالم بشكل عام. اسرائيل القلقة، التي لا تشك لحظة أن بنائها مائد على رمال متحركة، رغم ما سمعناه من تبجح رئيس وزرائها نتنياهو بأنها تقود العالم وتسيطر على اقتصاده وأنها تملك وتنتج احدث وأهم ما توصلت له التكنولوجيا! ورغم ما يبدو أنه استقرار تنعم به مقارنة بالمحيط المضطرب الذي يحيطها كسوار، فأن اسرائيل تدرك وتشعر عميقا بمدى العزلة والنبذ التي تعانيه في اطارها الجغرافي، وحتى وأن اقامت علاقات دبلوماسية وعامت سلعها في اسواق العالم فذلك لا يسقط شبهات الريبة والتحفظ حتى لدى الدول والاسواق التي تتعامل علنيا مع المنتجات الاسرائيلية، وما هذا إلا من معلوم هشاشة وجودها الذي يتأتى من هشاشة منشأها ككيان غير اصيل.
أن جل مايشغل بال العقل الاستراتيجي الاسرائيلي، كيفية تأصيل وجودها ضمن محيطها الجغرافي، وجل ما تبحث عنه حضور علني يكفيها ويكفي من تراوده عن نفسه من دول المنطقة مشقة التسلل من تحت الطاولة ومغبة الاتفاقات السرية المذمومة علنيا التي تعقدها مع بعض الدول العربية ودول المنطقة، غاية ما تصبو اليه اسرائيل اعتراف علني بوجودها وادماج تام من قبل محيطها، لتسقط الشبهات عن شرعية مفقودة لطالما ومازالت تلاحقها.
وستظل ترى الاصابع تؤشر نحوها وتسمع الاصوات ترتفع ضدها، وأمر شبهتها ليس مقتصرا على محيطها فقط الذي هي اليه بحكم العدو القائم. بل تواجهه بين حين وآخر من دول وجهات عالمية عدة ومن المعلوم لديها أنها ستظل شرعيتها ووجودها منقوص مادامت غير مشرعنة، ولا مقبولة ومنبوذة في محيطها.
ولذلك تسعى الدول التي انشئت وتلك التي تحتضن والأخرى التي تدعم دولة اسرائيل، الى تدابير شتى من أجل توطينها وتحقيق وجود اصيل لها في الاطار الجغرافي التي اعتسفت قيام كيانها على اديمه، مدفوعين بضغط اللوبيات اليهودية المهيمنة في بلدانهم، وتحثيثا لمصالحهم العابرة للقيم والمبادئ ومصفوفات ادبيات هيئة الأمم! وليس من قبيل الصدفة أن مشروع (الشرق الاوسط الكبير) ليس سوى خريطة لأعادة تأصيل تموضع الكيان الاسرائلي داخل محيطه العربي والاقليمي.
وعطفا على ماسبق هل ضاق بأسرائيل الانتظار فمضت تضغط بوسائلها وطرقها الخاصة على النظام العالمي الداعم لها أن يعجل بأخراج مجسم الشرق الاوسط الكبير الذي تعد نفسها لتتربع في اواسط عقده، هل استشعرت اسرائيل واميركا المتزعمة لمشروع (شرقها الاوسطي) أن الزرع قد طال أمده وتأخر قطافه، أم أن تنفيذ المشروع وصل مرحلته الأخيرة ولم يتبق سوى نقلة ال ( كش ملك). وعود على بدء ليس بالأمر المستحدث ولا الجديد على الأنظمة العربية -دون استثناء- ارتكابها جرائم وانتهاكات حيال مخالفيها ومعارضيها في الرأي، وهناك مئات الجرائم والانتهاكات ترتكب يوميا ليس بخفية عن نظر وسمع المجتمع الدولي والعالم أجمع، بدء من الترهيب والملاحقة والاعتقال والاخفاء القسري والتنكيل والتعذيب في السجون حتى الموت والاغتيال والقتل العلن. بل حتى أن الدول الغربية التي أنظمتها تنافح وتدافع عن حقوق الانسان وتقف ضد الانتهاكات، وتحقيق العدالة في بلدانها، فأنها لا مناص تمارس انتهاكات في حق اشخاص وشعوب وبلدان اخرى.
وأن كان لابد من الاقرار بأن الأنظمة العربية تتربع دون منازع على هرم الجرم والانتهاك. اذا لماذا كل هذه الزوابع و ( التسونامي) العالمي في المواقف والاشتغال المضطرد للألات الاعلامية في قضية اغتيال خاشقجي؟! ليس جمال خاشقجي – غفر الله له- بذاك الصحفي العالمي الذي مقال منه يسقط حكومة ولا بمنشق معارض يهيب نظام ملكي عميق الدولة كالنظام السعودي، بل أن دخوله الصحافة قد جاء من باب الدبلوماسية الاستخباراتية للمملكة ودلل منها معطوفا على تدليلها لجماعته السياسية الاسلاموية ( الاخوان المسلمين).
ونعلم من تجاربنا مع الغرب والمجتمع الدولي أنها حتى وأن ساهمت بالاطاحة بنظام أن لن تأتي بسوى العسكر أو شيوخ القبائل فكيف بصحفي متواضع الموهبة كل قوته بأنه فتحت له شقفة في ابواب الصحف الاميركية. لا ريب أن هناك تقاطعات لاطراف عديدة في القضية، ومصالح واستثمارات يتحين كل طرف جنيها، وما تدويل القضية إلا دليل على ذلك.
فهل دبر مقتل خاشقجي لتصبح قضيته حصان طروادة؟ الحصان الذي يحمل في جوفه جنود عديدين يستعدون للأنقضاض، غير أن للحصان مالك وقائد واحد فقط . وهو الذي سيؤل اليه النصيب الأكبر من الغنائم، وأهم مافي الغنائم السبايا، فهل خطط أن تغدو السعودية السبية القادمة لمشروع "الشرق الأوسط الكبير" وهو مدرك سلفا تموقعها في قلب القرار العربي والدور القيادي للمملكة الذي لا يجروء سواها تخطيه، وأن اتخاذها لأي خطوة أو قرار سيوقع خلفه كل احجار (الدومينو) العربية، فهل ستكون الخطوة المابعد خاشقجي هي الضغط على المملكة وابتزازها لجرها إلى التطبيع مع اسرائيل ولو بخطوات تدريجية. قال البعض أن غاية اميركا الابتزاز المادي للمملكة، غير أننا شهدنا المملكة تدفع المليارات ل (ترامب) ولم نر لها توانيا لا سابقا ولا لاحقا عن الدفع ولا تحتاج إلى الابتزاز حتى تدفع.
اذا هناك أمر أخر لا يقل أهمية واستراتيجية فيما دبر له بليل، وما ذلك إلا اسرائيل ومستقبل اسرائيل وتموضعها واستقرارها وتأصيل وجودها وشرعيتها المهددة ومشروع تسيدها وتمددها الاستراتيجي في المحيط الذي زرعت فيه.