هدى العطاس تكتب:

صنعاء الحوثي مدينة السخرية والمرارة

غصت مواقع التواصل الاجتماعي في اليمن بموجة من تعليقات السخرية السوداء الناقمة على إعلان جماعة أنصار الله الحوثي نيتها تنفيذ مشروع مترو معلق، يسير على سكة في الهواء بالعاصمة اليمنية صنعاء، التي احتلتها الجماعة واخضعتها لعسفها الأمني الأسود.

مترو خرافات الأولين

أنا من موقعي الصغير على الأرض في مدينة بعيدة، تخيلت بشعور ساخر ومرير - وهذان شعوران متدافعان في المشهد اليمني - أنني أحلق طائرة في الهواء فوق صنعاء، لكن مثل نساء الرسام الراحل مارك شاغال، اللواتي يسبحن في عتمة الليل الغامضة.  

والسخرية المريرة زادت أحلام البسطاء غير المتحققة. أما الرعب فصنيع الساسة وعبثهم بالشعب اليمني.

تخيل عزيزي القارئ مدينةً يمخر فضائها مترو طالع من خرافات الأولين في مخيلة الحوثيين، فيما تنوء شوارع المدينة إياها، تلك الإسفلتية الرئيسية القليلة، بحفر نيزكية، تخرجها من الخدمة لأي عارض عابر: فيضان مجاري الصرف الصحي. غرق صنعاء القديمة ما أن تتساقط هبات مطر قليلة نادرة أصلًا. انسداد أفق الشوارع والطرق العاصمة المنكوبة بمواكب الحشود الخضراء في مهرجانات حوثية لا تنتهي.


لا تتورع جماعة الحوثي عن إغداق الأوهام على المخنوقين بميليشياتها التي تسوق فتية صنعاء ومحافظات الشمال كالقطعان إلى مراكز التجنيد والتثقيف الطائفي السلالي، ثم إلى جبهات القتال

أوهام الضفتين

تخيل مدينة تنعدم فيها الكهرباء ويكتنفها ظلام دامس، إلا من إضاءة "التوشليت" (مصباح اليد حين يسلطه جند الحوثي على وجوه العابرين على حواجزهم الأمنية التي تقطّع أوصال المدينة بين بضعة أمتار وأخرى.

والمرارة مبعثها الاستهزاء بشعب كامل استمرأوا بكل وقاحة واستقواء بيعه الأوهام. فأهل التسلط اليمني مهما اختصموا يوحدهم امتهان الشعب وابتزازه.

لا تتورع جماعة الحوثي عن إغداق الأوهام على المخنوقين بميليشياتها التي تسوق فتية صنعاء ومحافظات الشمال كالقطعان إلى مراكز التجنيد والتثقيف الطائفي السلالي، ثم إلى جبهات القتال.

في الضفة المقابلة لم يتحرج رئيس الوزراء السابق في عدن، أحمد عبيد بن دغر، عندما أطل قبل سنوات قليلة، أي عام 2017 وسط استعار المعارك، وأعلن للشعب اليمني عن نيته ومشروعه العرمرمي الهممام: بناء قطار سكة حديد!

توأمة عجيبة اتفقت بين صنعاء وعدن.

سيرة الأعاجيب

والأعجب أن سيرة رئيس الوزراء اليمني ذاك وتاريخه السياسي تشبه قطارًا في تنقله وتغييره اتجاهاته وتوقفه في محطاته. فقد عرف عنه تقافزه مثل رتل من الجراد من حزب إلى آخر، ومن ظهر فرس في السلطة إلى ظهر فرس أخرى. فهو القيادي العتيد في الحزب الاشتراكي، وقاد بنفسه مظاهرات "البروليتاريا" في جنوب اليمن. صرخ بشعاراتها الحادة، واشترك في حركة التصحيح العنفية ضد الاقطاع و"الكهنوت" (وهذه صفة القوى التقليدية أنذاك) وكوفئ بمناصب عدة في دولة الجنوب السابقة. وبعد سنوات من حرب 1994 بين الشمال والجنوب، وبقائه خارج البلاد، عاد لينظم إلى حاشية الرئيس السابق علي عبدالله صالح مسبِّحًا بحمده كضو قيادي في حزبه.


من كهرباء صالح النووية إلى مترو الحوثي الكهربائي الطائر في سماء صنعاء... اليمن معطل في محطة مهجورة تنسج فيها أنواع من العناكب شبكات أوهامها، مطمئنة لظلام لا يشوبه سوى الظلام

ولاحقا ناصر جماعة الحوثي اثناء تحالفهم مع صالح. ثم فر إلى السعودية وعارضها مع صالح منددًا بهما معًا. وعلى طريقة تغيير القطارات اتجاهاتها أدرك مسبقًا مصير صالح المحتوم الذي انتهى مقتولا بيد الحوثيين. فسارع إلى الالتحاق بعبد ربه منصور هادي فعينته رئيسا للحكومة.

فما العجب إذًا في بيع أوهام القطارات المجنحة الطائرة في سماء صنعاء وعدن؟!

الوعد الخلاصي الأسود

مهازل الساسة في اليمن لا تنفك تكرر مشهدياتها. قبل سنوات عدة من قطار الحوثي الطائر في صنعاء، والقطار الموعود في عدن، وقف علي عبدالله صالح في نهار من العام 2006 اراد وراح يسوق نفسه في انتخابات رئاسية كان قد أعلن قراره بعدم الترشح فيها. لكنه نزولًا عند رغبة مسيرات أنصاره المليونية عدل عن قراره، وخرج في شطحة لا تبارى صادحًا ببرنامجه الانتخابي: قريبا سوف أولّد الكهرباء بالطاقة النووية.

من كهرباء صالح النووية إلى مترو الحوثي الكهربائي الطائر في سماء صنعاء... اليمن معطل في محطة مهجورة تنسج فيها أنواع من العناكب شبكات أوهامها، مطمئنة لظلام لا يشوبه سوى الظلام.

قد ينسى الحوثي قطاره المعلق في سماء صنعاء المظلمة. أو قد يختفي في ثقب خلاصي أسود، ليعلن لأنصاره الخُلَّص أنه أطلقه بالدفعة الأولى منهم إلى الجنة. ليبادر جنده إلى بيع تذاكر الدفعة الثانية من صكوك الغفران، في انتظار توزيعها على الشعب اليمني كله، لترحيله إلى جنة عدن تجري من تحتها أنهار الدم.