د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):

اليمن عبر التاريخ !! (1)

من بعيد، تبدو اليمن أشبه بجنة أرضية مليئة بالغرائب والعجائب والخوارق. هي في الميراث اليوناني القديم "العربية المباركة"، وهي في الميراث اللاتيني "العربية السعيدة"، وهي في الميراث العربي "أيمن الأرض"، وفيها "آية جنتان عن يمين وشمال"، كما ذكر القرآن الكريم (سبأ، 15).
من قريب، تنقلب الصورة بشكل مناقض: تبدو اليمن تعيسة وبائسة، ويخال من يراجع تاريخها أنها لم تعرف السعادة منذ قرون!!.
في "معجم البلدان"، نقل ياقوت الحموي عن ابن عباس: "تفرّقت العرب فمَن تَيَامَنَ منهم سُمّيت اليمن، ويقال إن الناس كثروا بمكة فلم تحملهم، فالتأمَت بنو يمن إلى اليمن وهي أيمنُ الأرض فسمّيت بذلك".
اختلف أهل الأخبار في رسم حدود "أيمن الأرض". قال راوية العرب الأصمعي: "اليمن وما اشتمل عليه حدودها بين عمَان إلى نجران ثم يلتوي على بحر العرب إلى عَدَن إلى الشحر حتى يجتاز عمان فينقطع من بَينُونة، وبينونة بين عمان والبحرين وليست بينونة من اليمن". وقال آخرون: "حدُّ اليمن من وراء تثليث وما سامتها إلى صنعاء، وما قاربها إلى حضرموت والشحر وعمان إلى عدن أبيَنَ، وما يلي ذلك من التهائم والنجود، واليمن ".
في القرن الخامس عشر، تحدّث ابن الوردي عن هذه الأرض في كتابه "خريدة العجائب وفريدة الغرائب وقال في وصف صنعاء: "
هي مدينة متصلة العمارات كثيرة الخيرات معتدلة الهواء والحرّ والبردّ، وليس في بلاد اليمن أقدم منها عهداً ولا أوسع قطراً ولا أكثر خلفاً وبها قصر غمدان المشهور، وهو على نهر صغير يأتي إليها من جبال هناك. وشمالي صنعاء جبل يقال له جبل المدخير وعلوّه ستون ميلاً، وبه مياه جارية وأشجار وثمار ومزارع كثيرة".
وقال في وصف عدن:
"هي مدينة لطيفة، وإنما اشتهر اسمها لأنها مرسى البحرين، ومنها تسافر مراكب السند والهند والصين وإليها تجلب بضائع هذه الأقاليم من الحرير والسيوف، والمسك والعود والسروج، والأمتعة والأهليجات والحرارات والعطريات، والطيب والعاج والأبنوس، والحلل والثياب المتخذة من الحشيش الذي يفخر على الحرير والديباج والقصدير، والرصاص واللؤلؤ والحجارة المثمنة والزباد والعنبر، إلى ما لا نهاية لذكره"
السدر القليل
ذكر ابن الوردي تهامة وحضرموت، وتحدّث عن مدينة مأرب، ونقل قصة عجيبة عن "السدّ الذي أرسل الله إليه سيل العرم". تقول القصة "إن امرأة كاهنة رأت في منامها أن سحابة غشيت أرضهم فأرعدت وأبرقت ثم صعقت فأحرقت كل ما وقعت عليه، فأخبرت زوجها بذلك وكان يسمّى عمراً، فذهب إلى سدّ مأرب فوجد الجرذ وهو الفأر يقلب برجليه حجراً لا يقلبه خمسون رجلاً، فراعه ما رأى وعلم أنه لا بد من كارثة تنزل بتلك الأرض، فرجع وباع جميع ما كان له بأرض مأرب وخرج هو وأهله وولده.!!

فأرسل الله تعالى الجرذ على أهل السدّ الذي يحول بينهم وبين الماء فأغرقهم، وهو سيل العرم، فهدم السدّ وخرج أهل تلك الأرض فأغرقها كلها".
كانت أرض مأرب مليئة بالأشجار المثمرة.
"وإذا أرادت المرأة الثمار وضعت على رأسها مكتلها وخرجت تمشي بين تلك الأشجار وهي تغزل، فما ترجع إلا والمكتل ملآن من الثمار التي بخاطرها، من غير أن تمس شيئاً بيدها البتة".
عاش أهل مأرب في هذا الفردوس. وكانت أرضهم "خالية من الهوام والحشرات وغيرها فلا توجد فيها حية ولا عقرب ولا بعوض ولا ذباب ولا قمل ولا براغيث. وإذا دخل الغريب في أرضهم وفي ثيابه شيء من القمل أو البراغيث هلك من الوقت والحين وذهب ما كان في ثيابه من ذلك بقدرة القادر!!.
وأذهب الله تعالى جميع ما كانوا فيه من النعيم الذي ذكره في كتابه ولم يبق بأرضهم إلا الخمط والأثل وشيء من سدر قليل".
تشير الآية السادسة عشرة من سورة سبأ إلى هذا المصير التعيس: "فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتى أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل". الخمط والأثل والسدر أشجار مرة أنبتها الله بدل الأشجار المثمرة، بحسب تفسير القرطبي!!.
من بعيد، تبدو اليمن تلك الجنة الأرضية التي خلت "من الهوام والحشرات وغيرها فلا توجد فيها حية ولا عقرب ولا بعوض ولا ذباب ولا قمل ولا براغيث". ومن قريب، تبدو اليمن أشبه بهذه الأرض التي لم يبق فيها إلا "شيء من سدر قليل". عرفت هذه الأرض حضارات قديمة متلاحقة كشف عن بعض من معالمها علماء الآثار في القرن الماضي، وجعلت هذه الاكتشافات الأثرية من اليمن خزانة تحفظ تاريخ العرب في الأزمنة التي سبقت الإسلام.
يتردد صدى هذا في قصيدة مطوّلة من مئة وسبعة وثلاثين بيتاً على البحر الكامل، أودع فيها نشوان الحميري بعضاً من تاريخ ملوك حمير وأقيال اليمن وتبابعتها، نجد شرحاً لهذه القصيدة في كتاب تراثي عنوانه "خلاصة السير الجامعة لعجائب أخبار الملوك التبابعة"، ويتضمن هذا الشرح نصوصاً نادرة من الزمن الذي أطلق عليه اسم الجاهلية، منها وصايا ملوك حمير وجدودها.

.
من الأمويين إلى العثمانيين

عرفت اليمن اليهودية والمسيحية قبل أن تدخل الإسلام. انتشرت المسيحية في نجران وتهامة، ودخلت في صراع مع اليهودية الآتية من يثرب إلى حمير، ونقل المفسرون أخبار هذا الصراع في شرح سورة البروج، وفيها: "قُتل أصحاب الأخدود. النار ذات الوقود. إذ هم عليها قعود. وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود" (4-7).
حكم ذو نؤاس اليمن، ، ودعا المسيحيين إلى اليهودية، "وخيّرهم بين ذلك أو القتل ، فاختاروا القتل، فخدّ لهم الأخدود ، فحرق بالنار وقتل بالسيف، ومثل بهم حتى قتل منهم عشرين ألفا"، كما نقل القرطبي.
عُرفت نجران بعد هذه الواقعة بـ"مدينة الأخدود"، والأخدود حفرة عميقة في الأرض كالخندق.!!
وكانت فرصة ذهبية للروم حيث تحالفوا مع الحبشة وقاموا باحتلال اليمن 75 عاما متخذين من حادثة الأخدود حجة وذريعة لغزو اليمن ..في حين أن الهدف من ذلك هو السيطرة على تجارة العالم القديم التي كان اليمن مهيمن عليها قبل اكتشاف الرجاء الصالح وحفر قناة السويس بعدة قرون !!
إلا أن الأمير ثم الملك سيف بن ذي يزن استعان بالفرس لإخراج الأحباش من اليمن وحكمها الملك سيف مدة 25 عاما حتى تم اغتياله على يد أحد حراسه الأحباش!!
وكان يحكم اليمن إلى جانب عامل فارسي من قبل كسرى يدعى باذان الفارسي آخر ولاة اليمن !!

دخل الإسلام اليمن بعد اليهودية والمسيحية، وظهر في هذه البلاد عدد كبير من العلماء والمحدثين وكبار رجال الإسلام. في زمن الأمويين، توسّعت الخلافة في اليمن، وبدأت في الانحسار في زمن العباسيين.
في نهاية القرن التاسع، بدأ حكم الأئمة الزيديين في صعدة، وانتقل إلى صنعاء. ظهر المذهب الزيدي على يد يحيى بن الحسين بن القاسم المعروف بالرسي، ولقبه الإمام الهادي إلى الحق. ويُعرف المذهب الذي دعا إليه هذا الإمام بالزيدية نسبةً إلى زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ويشكل أحد المذاهب الشيعية، ويختلف هذا المذهب بشكل كبير عن مذهب الشيعة الإثني عشرية، وأتباعه في اليمن كثيرون، ويحيى بن الحسين بن القاسم أول أئمتهم.
في تلك الحقبة البعيدة، شهدت اليمن قيام دول عدة، منها دولة بني يعفر، ثم دولة بني نجاح، والدولة الصليحية الفاطمية التي قامت في زمن انتشرت فيه الاضطرابات والانقسامات، فتحوّلت البلاد إلى مجموعة من الدول. برزت دولة بني زريع في الجنوب، وتمركزت في عدن. وظهرت دولة بني حاتم في صنعاء ومحيطها، بعدها بزغ نجم الأيوبيين، وانطفأ بعد نصف قرن مع تولي بني رسول السلطة، وقد دخلوا اليمن مع جيوش الأيوبيين، وكانوا على علاقة طيبة مع دولة المماليك المصرية، واستمروا في الحكم حتى منتصف القرن الخامس عشر. طوال تلك الفترة، ظل أمراء بني رسول على عداء مع الأئمة الزيديين في صعدة، ودارت بين الفريقين حروب متواصلة، وظلت سلطة الإمامة الزيدية قوية في شمال البلاد.
بعد الدولة الرسولية، ظهرت دولة بني طاهر في عدن ولحج، وامتد نفوذها في مرحلة ثانية إلى صنعاء، وتُنسب هذه الدولة إلى طاهر بن تاج الدين بن معوضة الأموي القرشي، وقد ناصبت الزيديين العداء، وانتهت مع دخول العثمانيين إلى البلاد في القرن السادس عشر بعد خمس وستين سنة من تأسيسها.
حكمت السلطنة العثمانية اليمن في زمن بسط فيه البرتغاليون نفوذهم على الخليج العربي وأقاموا قاعدة عسكرية وتجارية في هرمز، فتحولت اليمن إلى ساحة صراع بين هاتين القوتين، وتعرّضت إلى التخريب. في العقد الأول من القرن السابع عشر، زار الرحّالة البريطاني جون جوردان اليمن، وهو أول بريطاني يزور هذه البلاد.