علي الصراف يكتب:
عندما تكون سلاحا ذا استخدام مزدوج
إذا رأيتَ أنك أداة لمؤامرة، فلماذا تستمر؟ ضع السؤال على وجه آخر: إذا وجدتَ نفسك قابلا للاستخدام من قبل عدوّ لك، فماذا يجب أن تفعل؟
وها هنا وجه ثالث: إذا تلاقت أهدافك أو وسائلها، مع أهداف عدوّ تعرف جيدا غاياته، فهل يجوز لتلك الأهداف أو وسائلها، أن تبقى كما هي؟
ينطبق هذا السؤال على سلطة الرئيس السوداني عمر البشير، انطباقه على حركة الإخوان المسلمين، بل وعلى كل الذين يضعهم الواقع على صفيح الحقيقة الساخن، وهي أنهم، إذ يسبحون في خدمة تيار آخر، يقصدهم وقد لا يقصدوه، فإنّ التراجع واجب.
لم يحقق الرئيس البشير إلا الفقر والبلاء لشعبه وبلاده. أنظر في السجل العجيب من الفشل الاقتصادي والتمزق السياسي وضياع البوصلة، وسترى أن هذا الرجل لا يستطيع أن يجد في “المؤامرة” عذرا له. ولا في “الحصار الخارجي”.
ثمّة مقدار من الفشل يتعيّن على المرء أن يكون شجاعا بما يكفي لكي يتحمّل المسؤولية عنه. فلكي لا تكون أنت نفسك “مؤامرة”، فإنّ عليك أن تنظر إلى ما فعلتَ، وإلى ما كان يجب أن تفعل للخروج من سياق التيار المضاد الذي وجدتَ نفسك غارقا فيه.
شيء ما كان يجب عمله، في إدارة البلاد، وفي العلاقات مع دول المنطقة، والعالم، لكي يمكن للسودان أن يعثر على طريق بنّاء للتنمية والاستقرار.
هناك صراع سياسي داخلي وتنافسات حزبية وأزمات داخلية قادت إلى أنماط شتّى من الحروب الداخلية حتى انتهت إلى تمزيق البلد. ولكن كان يمكن للنوايا الحسنة، واحترام حقوق الآخرين، وقبول النقد، والأخذ بمقتضيات التشاور الوطني، والبحث عن خيارات جامعة، والتخلّي عن احتكار السلطة، ونبذ التعصّب الأيديولوجي لها، واحترام الخبرات الوطنية، أن تشكّل موانع حقيقية لـ”المؤامرة”، وأن تفتح نوافذ كبرى للخروج من دائرة الحصار.
ولكنّ شيئا من هذا لم يحصل. وعلى امتداد عقدين من الزمان ظل الحال يمضي من سيء إلى أسوأ. ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني، ببساطة، أنك اخترت، بعينين مفتوحتين، أن تكون تجسيدا شخصيّا للمؤامرة، وأن تمضي بها حتى يحيق الدمار الشامل بكل شيء.
فإذا بدا أنّ الأوان قد فات على استدراك أي شيء، بمعنى إذا بلغ الفشلُ بالناس الزبى، فماذا يجب أن تفعل؟
الناس أنفسهم، بوعيهم الفطري، قالوا: ارحل. فلماذا لا ترحل وأنت ترى سجلّك من الفظائع الاقتصادية وقد صار ينهش في أجساد الناس فقرا؟
لا أستطيع أن أستبعد، على سبيل مثال آخر، أن يكون هناك من ينتسبون إلى تنظيمات الإخوان المسلمين وهم مقتنعون بأن “العودة إلى الخلافة الإسلامية” هي الطريق، وأن “الحاكمية لله”، وأن “الإسلام دين ودولة”، وأنه هو “الحل” لكل المشكلات، وأنه مثل المضاد الحيوي القادر على مكافحة كل أنواع الأمراض، وأنك بالعودة إلى “السلف الصالح” تستطيع أن تتغلّب على الهوة التكنولوجية الرهيبة التي تفصلنا عن عالم اليوم.
ولكنك إذا عثرت على ملايين الأدلة من الوثائق والدراسات، والسياسات المعلنة، والاستراتيجيات المكشوفة، والتصريحات الرسمية، والدعوات إلى رسم خرائط جديدة، التي تسعى إلى توظيفك كأداة لإثارة التناحرات الداخلية، ولتقسيم بلادك على أساس الدين والعرق، والتي تنظر إلى شعبك على أنه قبائل من الهمج الذين يجب أن يُعاملوا بالعنف والقسوة، وأن يتم توجيه نزاعاتهم العرقية والمذهبية والطائفية بحيث تتحوّل إلى حروب أهلية، بل وتنظر إلى إسلامك على أنه تهديد حضاري، وأنه يجب تدميره من داخله، وإذا وجدت نفسك تؤدّي الغرض، ولو بصفة موضوعية، فماذا يجب أن تفعل؟
يمكنك أن تتجاهل حقيقة أنّهم موّلوك في السابق، من أيام “شركة قناة السويس” لكي تحارب المشروع التحرري من الاستعمار. ويمكنك أن تعتبر ذلك التمويل “شعرة من جلد خنزير”. ولكن هل يمكنك أن تتجاهل السبب؟ هل تستطيع أن تتجاهل أنه خنزير ضخم، حتى أنه ليس بحاجة إلى توجيهك في الوجهة التي يشاء، لأن توجّهك نفسه كاف بحدّ ذاته؟
وإذا وجدت أن مشروعك “الإسلامي” هو بالأحرى مشروع يؤسس للفتن الطائفية، ويحول دون النظر إلى المشكلات الاجتماعية والاقتصادية الجامعة، ويتركها تتفاقم، ويزيد عليها مشكلات أخرى أكثر إثارة للتمزّقات، وأنك تخدم بذلك كله -رضيت أم لم ترض- تلك الغايات المعلنة، مثل بيدق أعمى، وأنه يجري استخدامك كسلاح مزدوج لتحقيقها ولتدمير إسلامك نفسه، فماذا يجب أن تفعل؟ هل تواصل المسير على جمر الحقائق الملتهبة؟ أم تتوقّف لتتأمل على الأقل؟
وإذا لم تفعل، فماذا يعني ذلك سوى أنك أداة جريمة مقصودة، وُجدت ودُعّمت، وغُضّ الطرف عنها، لكي تحقق أسوأ ما يمكن للأحقاد الجامعة ضدنا أن تخططه؟
نعم توجد “مؤامرة” بلا شك. إنها شيء طبيعي تماما في صناعة استراتيجيات المصالح. ولكن أن تجد نفسك في خدمتها وأن تكون أنت نفسك مؤامرة، فهذا شيء مرير حقا. ولو كنت تملك مقدار ذرة من الشجاعة، فيتعيّن أن تتجرّع كأس الاعتراف به، وترحل.