كرم نعمة يكتب:

رسالة القديس مارك زوكيربرغ إلى المستخدمين

بدت الرسالة الأخيرة لـ مارك زوكيربرغ إلى المستخدمين أشبه برسالة قديس من القرون الغامضة إلى المصلين، أو فتوى مثيرة للجدل لرجل دين موجهة إلى المستخدمين المسلمين!

يتفهم جون نوتون مؤلف كتاب “من غوتنبرغ إلى زوكيربرغ: ما تحتاج معرفته حقا عن الإنترنت” دوافع الرسالة المكونة من 3220 كلمة عن مستقبل الخصوصية على فيسبوك، فالأمر قريب جدا من محفظة زوكيربرغ المالية، لأنه اكتسب ثروة غير معقولة وهو غير مستعد لتقويضها. علينا تذكر هنا مقولته الشهيرة عام 2012 “فيسبوك لا يعني لي مجرد شركة، بل بناء شيء يغيّر الواقع، ويحدث تغييرا فعليا في العالم”.

ركز زوكيربرغ الذي لم يعد شابا في رسالته على أنه “سيبني منصة للرسائل والتواصل الاجتماعي تركز على الخصوصية”، لذلك فإن مربع الماسنجر الصغير الذي تم تهميشه بسبب كم الأخبار الهائل على الصفحة الرئيسية لفيسبوك، سيكون في المستقبل موضع تركيز في تفاعلات المستخدمين بوصفه بيئة آمنة للتواصل الخاص. وفي محاولة من الشركة، كما يبدو، لتجنب المسؤوليات المستقبلية.

فجعل البيانات تختفي تلقائيا وتهميش تأثير النصوص الإخبارية وجعل التفاعلات خاصة، يقلل من حاجة شركة فيسبوك إلى تهدئة ومراقبة أكثر من ملياري مستخدم، خشية من جهات سياسية تسعى إلى التأثير عليهم.

وهذا ما يعده كريس نوتال الكاتب في صحيفة فايننشيال تايمز، إعادة السلطة إلى المستخدم ويقلل من تحمل فيسبوك مسؤولية ما يجري، من خلال نقل تحول الخدمة إلى ملايين المحادثات والمجموعات الخاصة.

توقع زوكيربرغ في غضون أعوام قليلة، أن تصبح الإصدارات الجديدة من ماسنجر وواتساب، الطرق الرئيسة التي يتواصل بها الناس على فيسبوك. إضافة إلى ذلك، شرح بالتفصيل كيف سيكون هناك عمل مشترك بين ماسنجر وواتساب ورسائل إنستغرام المباشرة.

وستستخدم شركة فيسبوك التشفير بين طرفين وعدم تخزين كلمات السر أو تخزين البيانات في البلدان التي قد لا تكون آمنة فيها. وستنتهي صلاحية المحتوى تلقائيا أو ستتم أرشفته بمرور الوقت.

لكن نوتون الباحث الأيرلندي وأستاذ التكنولوجيا في الجامعة المفتوحة يحذر بلغة العارف بالفكرة الحقيقية لفيسبوك، من أن الشبكة الجديدة المشفرة ستوفر للمجرمين الخصوصية التي يتوقون إليها، كما ستكون حماية رسائل المستخدمين من أعين المتطفلين خطوة مفاجئة تثير المشاكل للعالم. لأن مارك عندما يتحدث عن الخصوصية لا يفرق بين فيسبوك كملك شخصي له وبين البنية التكنولوجية التي يعمل عليها.

ربما وجد زوكيربرغ طريقة لاستثمار البيانات الوصفية من الرسائل المشفرة، في كل الذي يمهد له من تغيرات تلعب على فكرة الخصوصية، وهي “ضربة عبقرية” وفق خبراء العلاقات العامة، فالشركة المتهمة بشكل فاضح بالمتاجرة بالبيانات الخاصة، تحركت بسرعة لافتة لتكون بطلا عالميا في الخصوصية المشفرة!


وهو نوع من الانحراف يفسره جون نوتون، فـ”القديس مارك” أو “آية الله” أو الشيخ زوكيربرغ وفق تعبير المستخدمين العرب، شعر بأن التكاليف المتزايدة الهائلة لتنسيق محتوى فيسبوك ستصبح في النهاية غير مدعومة. لكن إذا تحول جزء كبير من هذا المحتوى إلى رسائل مشفرة فجأة لم يعد بالإمكان تحميل فيسبوك المسؤولية عنه، وبالتالي فإن خطط فيسبوك هي وسيلة للحصول على انتصار كبير في العلاقات العامة مع توفير الكثير من المال.

هناك تفسير آخر لرسالة زوكيربرغ، لا يخلو من السخرية، باعتبارها ضربة استباقية ضد إجراءات مكافحة الاحتكار. بعد أن بدأ السياسيون يتحركون بالفعل لتفكيك شركات التكنولوجيا الكبرى.

يفترض نوتون جدلا أن المشروع الجديد لفيسبوك سينجح على المدى الطويل وأن مراسلات 2.3 مليار مستخدم أصبحت غير قابلة للاستغلال أو النفاذ إليها من قبل هيئات إنفاذ القانون والهيئات التنظيمية ووكالات الاستخبارات. وهذا يعني إذا كان التشفير تاما بشكل مطلق ولا أحد يستطيع الوصول إليه بما في ذلك فيسبوك، سندخل في حروب تشفير جديدة مقابلة لحروب التشهير المتصاعدة اليوم، فمن يستطيع بعدها تطبيق القانون وكسر التشفير للوصول إلى أجهزة واتصالات الإرهابيين والمجرمين؟

الفكرة في النهاية أكثر من ساخرة، فكل خبراء الكمبيوتر يجمعون على أنه لا توجد وسيلة لتوفير هذه الإمكانية دون إضعاف سلامة بيانات المستخدمين والأجهزة وأنظمة الاتصالات. بعبارة أخرى لا أحد قادر على منع المتلصصين، إذا أراد تطبيق القانون وكسر التشفير للوصول إلى حسابات المجرمين!

إن زوكيربرغ غير قادر على الحفاظ على الخصوصية، وعزمه الواضح على توسيع التشفير غير القابل للكسر بين أكثر من ملياري مستخدم، سيجعل الأزمات الأخيرة تبدو وكأنها حفلات شاي، بينما تأخذنا حرب التشفير إلى آفاق مجهولة هي أشد بؤسا من معركة التشهير.

ويفسر ذلك مارتن تيسن في تقرير له في مجلة “تكنولوجي ريفيو” بأن السعي إلى الحصول على بياناتنا الشخصية يؤدي إلى طريق مسدود في عالم متصل بالشبكة. ما نحتاج إليه، بدلا من ذلك، هو تثبيت حقوق استخدام بياناتنا بشكل قانوني لا لبس فيه ولا يحصل من دون موافقتنا.

في النهاية لا يبدو أن المستثمرين يشعرون بالهلع من كل الذي سيحدث، فأسعار الأسهم متصاعدة وخدمة فيسبوك القديمة مستمرة وهي مضخة لا تتوقف عن توفير الأموال من نتائج تلقي الإعلانات وعرض الأخبار، كل ذلك سيستمر جنبا إلى جنب مع نظام المراسلة المشفر بشدة. ونبقى نحن، المستخدمين المتلهفين، في كل الأحوال، ضحايا قابلين بدورنا المنصاع للشركات التكنولوجية!