فاروق يوسف يكتب:

صانع لوحات.. الرسام الضائع بين الموهبة والصنعة والخيال

كان بابلو بيكاسو يردد “لقد حُرمت في طفولتي من الرسم كالأطفال. كنت في السابعة أرسم مثل رافائيل”. لم يكن هناك أي نوع من المبالغة في ذلك القول. لقد أوتي الرسام الإسباني مواهب خارقة جعلته يتمتع بعبقرية ميّزته عن سواه من الرسامين. وهنا ليس المقصود رسامي عصره بل وأيضا رسامي العصور السابقة.

كان في شخصيته شيء غير بشري. ففي معارضه الأولى التي أقامها في باريس بدءا من عام 1900 كان يرسم ثلاث لوحات في اليوم. ومن تتح له فرصة رؤية تلك اللوحات في المتاحف لا بدّ أن تبهره قدرة ذلك الرسام الشاب على إتقان عمله بطريقة لا يباريه فيها أحد. كانت تلك المعارض فاشلة بالمقياس التجاري وهو ما كان يدفع ببيكاسو إلى مغادرة باريس والعودة إلى إسبانيا، إلى أن قرر عام 1904 الاستقرار نهائيا في باريس.

تحرير الذات
سيكون ضروريا أن نعرف هنا أن بيكاسو الذي كان يرسم في طفولته مثل رافائيل لم يقدم نفسه باعتباره نسخة من الرسامين العظام الذين سبق له وأن أعجب بهم، بل نجح في أن يحرر نفسه من ذلك الإعجاب، واستطاع عن طريق تحرره أن يحرر الرسم من القيود الكلاسيكية عن طريق إعجابه بتجربة بول سيزان الذي أنهى عصر الانطباعية واضعا الرسم أمام عصر جديد، سيكون فيه أبا للحداثة الفنية. لقد رسم سيزان مناظر طبيعية ومشاهد حياة صامتة وأشخاصا يمارسون حياتهم وفتيات يرقصن، غير أنه لم يرسم كل ذلك بناء على معطيات طبيعية بل انسجاما مع تصورات جمالية كان الرسم مصدرها.

لقد تقدم الرسم على الطبيعة. صار الرسم مصدر قوانينه التي سينشئ من خلالها علاقته مع الطبيعة. وهكذا فإن كل ما رسمه سيزان كان يعبر عن الرغبة في استدعاء خيال الرسم، ولم يعد الرسام في حاجة إلّا إلى أن يستغيث بخيال الطبيعة.

- بيكاسو الذي كان يرسم في طفولته مثل رافائيل لم يقدم نفسه باعتباره نسخة من الرسامين العظام الذين سبق له وأن أعجب بهم، بل نجح في أن يحرر نفسه من ذلك الإعجاب.
بيكاسو الذي كان يرسم في طفولته مثل رافائيل لم يقدم نفسه باعتباره نسخة من الرسامين العظام الذين سبق له وأن أعجب بهم، بل نجح في أن يحرر نفسه من ذلك الإعجاب
ما تعلمه رسامو بداية القرن العشرين من سيزان هو أكثر مما تتعلموه من الطبيعة. غير أن ذلك لا يعني مطلقا أن أولئك الرسامين ومنهم بيكاسو قد غادروا المنطقة التي تجعلهم مؤهلين لرسم الطبيعة. ما من رسام حقيقي إلا ولا يزال فيه شيء من الشغف بالطبيعة.

أن يكون المرء رساما فعليه أن يكون حاملا لثلاثة مقومات هي “الموهبة والصنعة والخيال”؛ تعريف سيكون ثقيلا ومضجرا بالنسبة لكثير من رسامي أوقاتنا الحالية الذين يزعجهم الحديث عن الصنعة بشروطها التقليدية. غير أن “الصنعة” هي المقوّم الوحيد بين المقومات الثلاثة الذي لا يمكن الانزلاق به عن معناه. بمعنى أن أثنين لا يمكنهما أن يختلفا على ضعف الصنعة أو قوتها. وهنا يكمن مصدر قلق الكثيرين في ظل الحقيقة التي تفيد بأن الصنعة التي يجب أن يتمكن منها الرسام هي ليست ضرورية في مراحل لاحقة من صناعة العمل الفني. بهذا المعنى فإنها ضرورية لكي يكون المرء رساما غير أنها لا تصنع رساما مبدعا دائما.

المهنة رسام
الصنعة لا تكفي. فهي وحدها لا تنتج إلا رسامين بلهاء. رسامين يرون العالم في المرآة من غير أن يتمكنوا من اختراق تلك المرآة، مشتبكين بكائنات زئبقها التي تتقافز كالأشباح. هناك رسامون سحرتهم الصنعة في بدايات حياتهم فكانوا يعدون بما لم يفلحوا في الوصول إليه. لقد تحوّلوا إلى رسامين تجاريين أو رسامي ساحات. صار الاستمرار في العيش هو هدف الرسم بالنسبة لهم. لم يحتفظوا من الرسم سوى أنهم لا يملكون مهنة سواه. وهم من وجهة نظري قد خذلوا الصنعة حين فقدوا القدرة على توظيفها في المكان الصحيح. لم تنقصهم الموهبة غير أن الخيال خانهم. وهو القوة التي لا يملكون القدرة على تحريكها لصالحهم. ولكن ماذا عن الموهبة؟

الموهبة تبدو بالنسبة للكثيرين هبة طبيعية هي أشبه بالبداهة التي يتمتع بها الفنانون. وهو رأي غير صحيح. ذلك لأن حجم الموهبة يختلف من شخص إلى آخر. غير أن الاكتفاء بالموهبة هو أشبه بالاستناد على عصا قد تنثني في أيّ لحظة. الموهبة تُستنفد وتضيع ولا يمكن الاطمئنان إليها ما لم يدعمها الفنان بوعي جمالي يستظل بطريقة خاصة في التفكير في الفن ومن خلاله. وهو ما لا يقوى عليه الكثيرون من أصحاب المواهب.

يمكن النظر إلى الموهبة من جهة كونها الذريعة التي تدفع بالمرء إلى اللجوء إلى الفن باعتباره حاجة. أمّا حين تتحول إلى نبع وحيد للممارسة الفنية فإنها ستكون عاجزة عن الاستمرار في الإلهام. يحتاج الموهوب إلى المعرفة لكي يتعرف على معنى أن يكون المرء رساما.

يعتبر بعض نقاد الفن القرن العشرين أسوأ القرون في تاريخ الفن. ذلك لأنه أتاح لعدد كبير ممن لا يعرفون ما الرسم أو كيف يرسمون أن يكونوا من كبار الرسامين الذين لا يُمكن أن يكتب تاريخ الرسم الحديث من غير أن تُذكر أسماؤهم. لقد صنعوا تحولات تقنية أحدثت عصفا في مفهوم الرسم الحديث، فصار الرسم بعدهم يختلف عن الرسم الذي كان قبلهم. سأذكر هنا أبرزهم؛ الفرنسي إيف كلاين والإيطاليين بييرو مانزوني والبرتو بوري وفونتانا.

أعتقد أن جزءا عظيما من التحوّل الفني الذي شهده الرسم في العالم قد وقع بتأثير مباشر من التجارب الفنية التي قدمها الرسامون الأربعة الذين لم يُعرف عنهم أنهم قد مارسوا الرسم ممسكين بالفرشاة احتفاء بالإنسان أو الطبيعة.

إنهم في واقع الأمر ليسوا رسامين. صاروا كذلك لأن قوى الاستهلاك قد أجهزت على الرسم وصارت تتعامل معه باعتباره ماكنة لإنتاج بضائعها التي تناسب ذائقة زبائنها فكانت ردة الفعل بمثابة خروج على قواعد اللعبة. غير أن ذلك الخروج كان انتهاكا للشروط التي يتطلبها فعل الرسم. لم يكن أولئك الطليعيون رسامين. كانوا في حقيقتهم صانعي لوحات. وهو ما لم ينتبه إليه أحد من مؤرخي ونقاد الفن في العالم.

لقد قُدّم أزرق كلاين باعتباره اختراعا، كما أن الشق الذي أحدثه فونتانا في سطح اللوحة لا يزال يبهر الكثيرين، ولا تزال السطوح البيضاء المغلفة بالقماش التي صنعها بوري ومانزوني مصدر دهشة بالنسبة للبعض. ولكن أين الرسم؟ ذلك سؤال سيظل مرجأ؛ لا أحد يجرؤ على النطق به.

بطريقة أو بأخرى فإن صانعي اللوحات احتلوا في النصف الثاني من القرن العشرين المواقع التي كان يحتلها الرسامون في النصف الأول من ذلك القرن. كان الأميركي أندي وارهول هو الأبرز في ذلك المجال. وارهول يعرف جيدا ما الرسم، غير أنه لا يجيده. لذلك لجأ إلى الطباعة على الشاشة الحريرية ليكون رساما. لقد صنع أسطورته بما يوازي ثقته بالتفاهة التي يتباهى بها المجتمع الاستهلاكي.

لم يرسم وارهول ما رآه بل استنسخه، وكان من خلال ذلك الاستنساخ يعبر عن حالة الاستلاب التي انتهت إليها علاقة الجمهور بالرسم.

لقد فرضت المتاحف على ذلك الجمهور “صانع لوحات” باعتباره رساما. سيكون من الصعب اقتلاع رسوم وارهول من الذاكرة الشعبية باعتبارها ليست رسوما. مَن أحبّها فإنه لن يكون مهتما بتصنيفها. ومَن رآها محايدا فإنه سيمرّ بها باعتبارها جزءا من تاريخ الرسم الحديث