فاروق يوسف يكتب:
أحمد ماطر فنان عالمي يقيم في بيئته
“ابن عسير” لقبه مثلما هو لقب الكثير من أبناء تلك المنطقة التي تقع جنوب المملكة العربية السعودية. غير أن ذلك اللقب بالنسبة له يكتسب طابعا إلهاميا، يحرر من خلاله صفحات علاقته بالفنون المعاصرة، ما خفي منها وما ظهر.
فبالرغم من أن اسمه قد أدرج في قائمة الفنانين العرب المعاصرين من قبل نوادي الفن العالمية التي تمارس سلطة على أسواق الفن غير مسبوقة في التاريخ فإنه لم يستسلم لأجندات تلك النوادي في أسلوب تعاملها مع الفنان العربي أو المسلم.
الرقم الصعب في المعادلة
أحمد ماطر لم تغره أسواق الفن التي أعدت بطريقة محكمة من أجل استمالة الفنان العربي في إطار سياسي – ديني لا يمكنه الإفلات منه باعتباره الحيز الوحيد المسموح له بالحركة فيه إذا ما رغب في أن يكون ذا حظوة في تلك الأسواق.
العكس تماما هو ما فعله ماطر. لقد قرر أن يخلص إلى بيئته. فكانت أسئلته الوجودية انعكاسا لعلاقة تعتمد أصلا على البوح الداخلي. لم يكن الاعتراف في تلك العلاقة موجها إلى الآخر بطريقة تزل بالشهادة عن محتواها الإنساني.
ولم تكن الشهادة هي الهدف. ربما لأنه تعلم من التشريح، وهو طبيب أصلا، أن الفكرة لا يمكن الوصول إليها عن طريق ما يظهر منها. تلك بالنسبة له هي الضلالة التي وقع فيها الكثيرون ممن صارت أعمالهم رائجة في أسواق الفنون المعاصرة.
كانت بطولته المضادة تستند إلى التفكير من داخل الصورة. ألأنه مصور فوتوغرافي أيضا؟ تلك واحدة من تجليات عصيانه. فهو يقيم علاقة بين ما يُرى بطريقة شفافة وبين ما لا يُرى ليكون بمثابة استحضار للشيء في حياة لم يعشها من قبل.
سيكون من الصعب تجنيس الأعمال الفنية التي أنتجها ماطر إلا إذا ارتأينا وضعها عشوائيا تحت لافتة الفن المعاصر وهو حكم فيه الكثير من العبث. ذلك لأن ماطر نفسه وهو صعب المراس لا يميل إلى فكرة الانتماء إلا إذا تعلق الأمر بالبيئة التي لا يزال يستلهم عناصر فنه من إيحاءات مفرداتها الغنية.
بيسر وجد له مكانا في لندن وفينيسيا وذاعت شهرته عالميا، غير أنه لا يزال يصر على محليته. وهو ما صنع منه رقما صعبا، لم تتمكن أسواق الفن من احتوائه أو استدراجه إلى برامجها الترويجية.
ولد أحمد ماطر آل زياد عسيري عام 1979 في مدينة تبوك شمال السعودية. عام 1994 عادت عائلته إلى مدينتها أبها في منطقة عسير جنوب المملكة ليكمل دراسته الثانوية هناك. بعدها التحق بكلية الطب، جامعة الملك خالد في أبها وفي الوقت نفسه انضم إلى قرية المفتاحة للفنون وهي جزء من مركز الملك فهد الثقافي. هناك حصل على مرسمه الخاص وساهم في تأسيس جماعة “شتا” التي أقامت أول معارضها عام 2005.
الواقع والحقيقة وما بينهما
أقام ماطر معرضا شخصيا في عام 2010 بلندن بعد أن كان قد عرض أعماله في بينالي الشارقة 2007 وفي بينالي القاهرة 2008 وفي المتحف البريطاني بلندن عام 2006 و2008 وفي بينالي فينيسيا 2009 وفي برلين 2010. كما أنه يرعى معرض “حافة الصحراء” الدوري الذي تقوم مهمته أصلا على اكتشاف أسماء سعودية جديدة في عالم الفن المعاصر.
يقوم الآن بالإشراف على معهد “مسك” للفنون التابع لمؤسسة محمد بن سلمان الخيرية. وهو معهد أقل ما يُقال عنه إنه يؤدي جزءا من مشروع الانفتاح السعودي.
ماطر إذاً هو طبيب وفنان. ثنائية العلم والفن تلك انعكس مزيجها على عالمه الفني في ظل تشبثه بمفهوم الفن الاجتماعي الذي سبق أن طرحه في ستينات القرن الماضي الفنان الألماني جوزيف بويز باعتباره موقفا سياسيا، لكن في إطار ما هو فني. وهو ما يؤسس لعقد بين العمل الفني وجمهوره يقوم على أساس رؤية ثقافية تخترق الزمن كما تفعل الأشعة السينية بالجسد. يحرص ماطر على أن يقدم أفكاره على هيئة سلسلة من الأعمال الفنية تحت عنوان واحد؛ “إضاءات” و“إشراقات” و“مغناطيسية” و“البقرة الصفراء”.
عالم بخيال فنان
يملك ماطر فكرا واضحا وهو يعرف ما الذي يفعله. يقول عن مشروعه “البقرة الصفراء” “إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين. بعض الأحيان يمتلئ الإنسان بالأفكار والتخيلات، وكان مشهد البقرة الصفراء هاجسا عندي منذ زمن. كيف أقدم هذا المشهد؟ ذهبت إلى القرية واخترت بقرة بيضاء. رجع لي الهاجس مرة أخرى. ولكنني هذه المرة قررت أن أحرر الفكرة أكثر وأصنع منها منتجات”. شيء من الظرف في إمكانه أن يواجه الواقع بالحقيقة والعكس صحيح.
يقف ماطر بتوازن على ضفتين وهو ينتقل بينهما بخفة. فهو يصنع أفلاما بتقنية الفيديو ويركب الأشياء الجاهزة في سياق فن التجهيز وفي المقابل لا يزال يرسم على الورق وعلى القماش. مفهومه الخاص عن الفنون المعاصرة حرره من عقدة الاتباع. فهو لا يرغب سوى أن يكون نفسه؛ الكائن الوارث الذي لا يزال إرثه يتحرك في مناطق خيال خصبة. وهو في الوقت نفسه صاحب رؤية علمية، وفرت له التقنيات إمكانية أن يكون سيد أدواته.
في ذلك المجال يمكن اعتبار ماطر استثناء يعتد به. فبقدر اهتمامه بألم الإنسان الداخلي كان حريصا على أن يلقي نظرة على المحيط البيئي. فكانت فكرته عن تسجيل مراحل التطور التي عاشتها بلاده بمثابة إعادة اعتبار إلى الحاضر باعتباره صيغة حياة.
لا يرضى ماطر بأن يكون في فنه وسيطا. الفن من وجهة نظره لا يصلح وسيلة للنقل. هو الحدث وليس التعبير عن الحدث. النصوص الشعرية التي يضمنها أعماله هي الأخرى وقائع كتابية ولا يأمل الفنان أن يعتمد على معانيها في تحقيق أي نوع من التأثير. إنها من وجهة نظره أشغال بصرية مثلها مثل الزخرفة التي أحاط بها إشراقاته التي هي نتاج الأشعة السينية.
ستبدو اللعبة مضطربة بين ما هو بصري وما هو شعري لو لم يكن ماطر قد استعد لذلك الاضطراب من خلال اعتماده على أسلحته العلمية. عن طريق تلك الأسلحة يمارس الفنان نوعا من الردع في اتجاهين؛ الداخل والخارج، الواقع والحقيقة. إنه يقول ما يعرف غير أنه في الوقت نفسه يعتذر لأنه لا يعرف ما يقول. خيال الفنان يسبق شك العالم.
بطولة الفن المختلف
“سيكون على المرء أن يواجه العالم عاريا” ذلك لا يكفي. لا يكفي أيضا أن يسأل المرء البقرة، صفراء أم بيضاء كانت، عن منتجاتها. هناك شيء اسمه التحول. وهو ما يسعى ماطر إلى الاستثمار في حقوله. ما من شرط مسبق لذلك التحول. الفن نفسه لا يقبل الشروط المسبقة. فن ماطر هو فن استباقي. يهمه أن يُسجل غير أنه في الوقت نفسه يمحو ما لا يراه مناسبا. ولكن ما هو المناسب بالنسبة لهذا الفنان؟
يجمع ماطر بين مفاهيم يضعها الكثيرون في قائمة المتناقضات وهي ليست كذلك بالنسبة له. ذلك لأنه يفعل ما يشاء بالطريقة التي يحب. فهو منفتح على جذوره بالقوة نفسها التي ينفتح بها على العالم. وهو يعترف في الوقت الذي ينصت فيه إلى اعترافات العالم من حوله. هو البطل والشاهد وهو أيضا الواقعة التي يتأكد من خلالها أن هناك فنا مختلفا.