سمير اليوسفي يكتب:
قطر تأكل لحم الحمدي في الغداء الأخير!
توقيت الجزيرة لعرض فيلم عن اغتيال الشهيد "الحمدي" بعد أكثر من 40 عاماً جاء لمناغشة السعودية ونكش أوجاع اليمنيين بإعادة توظيف جريمة قتله -المعروفة بتفاصيلها- حتى للبهائم، يؤكد أنّ حقد إمارة قطر على المملكة انتقل من الطفح المصحوب بالحُكاك إلى السعار الذي لا بُرء منه.
وكم كان مُسلياً وضعها لعنوان مُحمّر أسفل الشاشة مسبوقاً بكلمة "عاجل" تلخيصاً لما قاله عبدالغني ثابت أمين عام التنظيم الوحدوي الناصري الأسبق حول دور الملحق العسكري السعودي في الحادثة وكأنّها "جابت الذئب من ذيله" واكتشفت هوية قاتل في جريمة وقعت قبل ساعات، وليست أخباراً متداولة كانت تعلمها "جدة" معد البرنامج منذ أربعة عقود.. واستطاع حفيدها بفهلوة المتحذلقين تسويقها كسبق صحفي لقناة الجزيرة على أنّها "براءة اختراع" لم يسبقه لها أحدٌ من العالمين.. ظناً منه أنّها قد تُلحق الأذى بالأمين العام الحالي للحزب "عبدالله نعمان" بعد أن أصبح دور الناصريين في مُساندة التحالف موجعاً لإخوان الجزيرة.
وحتى إعادة الفيلم لمحتوى الصحف الدولية والكتاب الفرنسي عن اغتيال الحمدي كان معروفاً ومثاراً عند المهتمين.. كما أنّ مضمون مُقابلات من ظهروا في الفيلم من داخل صنعاء سبق أن أشبعوا بها الصحف والفضائيات اليمنية قبل سنوات، ونشرت صحف السياسية والثورة وسبتمبر المُختطفات من الحوثة خلال شهري أكتوبر ونوفمبر من العام الماضي بعض الوثائق التي نشرتها الجزيرة وبالتزامن مع قناة بلقيس. وإعادتها أثبت العلاقة المتينة التي تجمع الحوثيين بإمارة قطر وبينهما الفصيل الإخواني المُنتمي له الاستقصائي المُتقمص شخصية شارلوك هولمز.
لم ينشر الفيلم صور رمي الغشمي بالأحذية أثناء حمل جناز الحمدي، وتجاهل ذكر دور الشيخ الأحمر (الراعي السابق للإخوان المسلمين) لكونه مع المتنفذين الذين جمعهم عام 1965 حلف خمر كانوا المُتضرررين فعلياً من بقاء الحمدي رئيساً بعد أن منعه من البقاء في العاصمة، رُبما تخوفاً من معد البرنامج على مصدر رزقه حتى لا يقطعه عرَّاب الاٍرهاب "يوسف القرضاوي" رئيس مجلس أمناء مؤسسة القدس الإيرانية، لأنّ الشيخ الأحمر كان نائبه فيها حتى وفاته.
وبرأت الجزيرة صالح من حيث أرادت النيل منه كما هي عادتها.. لأنّ الذين جلبتهم للشهادة ضده ظهروا مثل "سرحان عبد البصير" في مسرحية "شاهد ماشفش حاجة".. ومنهم "عبدالله سلام الحكيمي" الذي كان ناطقاً باسم مجلس القيادة، واعترف أنّه شارك في صياغة بيان نعي الحمدي -لصالح الغشمي- إلى جانب مدير مكتب الغشمي حينها "أحمد العماد" مما يعني أنّه كان أحد المُشاركين في التغطية على الجريمة.. ولاحقاً كان أحد الوشاة على الناصريين بعد فشل انقلابهم. وهو حالياً مسئول ارتباط بين الحوثيين والمخابرات البريطانية.
والمعلومة الوحيدة التي أوردتها الجزيرة مُدللة بوثيقة قد تكون صائبة هي تغاضي صالح عن دفع مبلغ طلبه متصل مجهول في باريس لمراضاة أهل الفتاتين اللتين جلبهما من فرنسا موظف في السفارة اليمنية يُدعى "محمد الشامي" وقُتلتا في بيت أستأجرها الغشمي لإلصاق تهمة الدعارة بالحمدي وشقيقه.. وهذا يثبت أيضاً براءة صالح وأنّ القضية لا تعنيه ولو كان مُشاركاً كما زعموا لدفع المبلغ المطلوب وخضع للابتزاز.
لو كانت الجزيرة مُهتمة بالاستقصاء فعلاً لبادرت لنبش قضية الحمدي حينما طالب اليمنيون فتح ملفها قبل عشرين عاماً، أو على الأقل عندما اندلعت الثورة الهوجاء في 2011، وكان حينها مُعظم من تتهمهم على قيد الحياة "مُش محمد الحاوري فقط الذي زعمت أنّه صعُب عليها الوصول إليه" والصحيح أنّ الحوثي لم يرغب بذلك حتى لا يُقدمه للمحاكمة.
ولو كانت مهنية، كما تزعم، ولم تكن قطر متورطة بقتل الزعيم صالح من خلال توفير الدعم اللوجستي للحوثيين لعملت عنه فيلماً استقصائياً، فدمه لم يجف بعد، ومُرتبط بالحرب الدائرة منذ أكثر من أربع سنوات.. ولا تزال مُلابسات انتفاضته وقتله أكثر غموضاً من اغتيال الحمدي.. وكشفها أهم لحاضر ومُستقبل اليمن.
في 2011 أجرت قناة سهيل حوارات مع الأخ غير الشقيق للحمدي، ومع بعض رفاقه مثل حاتم أبو حاتم والجرباني وغيرهما.. وذلك بعد تردُد اسم الشيخ الأحمر في التحريض على قتل الحمدي ولإلصاق التهمة بالشهيد علي عبدالله صالح، لكنها لم تخرج بغير تأكيد صريح بأن الغشمي هو القاتل وإلصاق التهمة بصالح مجرد تخمينات ومكايدات.
ولاحقاً نشرت صحيفة الجمهورية حواراً مع شقيق الحمدي كان لافتاً فيه تأكيده لمعلومة مهمة مفادها أنّ الملك الراحل خالد بن عبدالعزيز انزعج من تدبير عملية القتل وأظهر سخطه علناً في اجتماع لمجلس الوزراء السعودي.. وهو ما تجاهله سبع الجزيرة المدهش!!
وفِي حديث لي مع العميد الركن علي حسن الشاطر في 2012 أكد معلومة كنتُ سمعتها من الشهيد الزعيم قبلها بأعوام وهي أنّه كان في تعز أثناء مقتل الحمدي وانتقل إلى صنعاء بمروحية بعدها، وكان طبيعياً أن يتم مُشاهدته في نفس الليلة.. وشهادة الشاطر مهمة للجزيرة لأنّها تعمدت ذكره في الفيلم وكان مفترضاً أن تتوثق منه التزاماً بالحيدة والموضوعية.
وسمعت من صالح عن مكان وجوده أثناء مقتل الحمدي في مقيل ببيته في تعز بحضور عبدالعزيز عبدالغني وعبدالقادر هلال وتوفيق عبدالرحيم وشاهر عبدالحق، وحتى لا يُقال إنني أستشهد بالموتى فرجل الأعمال شاهر عبدالحق لا يزال حياً يُرزق.
يومها أصدرت صحيفة الجمهورية عدداً احتفائياً بمناسبة الذكرى الـ19 للوحدة وفيها توثيق لصور نادرة للرؤساء السابقين ومقالات قديمة عنهم.. واستدعاني الرئيس صالح مشيداً بالعدد المكون من أكثر من مائة صفحة وثمانية ملاحق. وأخذ يتصفح بعض أوراقه حتى وصل إلى الملف الخاص بالحمدي وفيه فقرة عن وصفه له بـ"تيس الضباط" ومقالة تُشير إلى أنّ الحمدي كان قد فكر قبل اغتياله بتأسيس مؤتمر شعبي عام ليكون مُناظراً للحزب الاشتراكي الحاكم في الجنوب في مفاوضات الوحدة، فالتفت إليّ وقال: أراك مُعجباً بالحمدي. وأومأت برأسي موافقاً ومؤكداً على كلامه بـ"نعم". وسألته على الفور عن صحة المعلومة الخاصة بالمؤتمر.. وكنتُ أتوقعه سيدحضها.. غير أنّه أكدّ صحتها.. وقال "الحمدي كان قائداً فريداً من نوعه.. ذكياً وخطيباً.. مُفوهاً ومتواضعاً، لولا ثقته المفرطة بمن حوله، وعدم اهتمامه بحماية نفسه خاصة بعد إقصائه للمشايخ والقوى المتنفذة".. وشجعني حديثه عن الحمدي لأنقل له اتهامات بعض الناصريين له بالمشاركة في قتله، وكان رده سريعاً "طبيعي هم يقولوا كذه.. بسبب فشل محاولتهم في الانقلاب عليّ.. ومحاكمة وإعدام بعض المتورطين فيها ".
أياً كانت أسباب ودوافع مقتل الشهيد الحمدي، فمن الغباء توظيفها بأثر رجعي للإساءة لمن يحكم المملكة حالياً في فيلم يفترض تسميته بـ"العداء المستمر" لا "الغداء الأخير".. ولعل تعامل الملك سلمان وولي عهده مع مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي وإحالة المتورطين فيها للقضاء يكشف لنا أنّ سعودية اليوم تختلف عن الأمس.
وحتى لا تظل قطر تمارس هوايتها الشاذة في الاصطياد بالماء العكر داخل اليمن للإساءة لجيرانها.. ينبغي على السعودية المُسارعة لإزالة كُل ما يُعكر صفو علاقتها مع الداخل اليمني، ولن يتأتى ذلك بغير توحيد صف اليمنيين على قيادة تضع نصب عينها مصلحة اليمن وتحريرها من الحوثة المتمردين، لأنّ التشتت الحالي ستحصد ثماره الدول المعادية.
هذه هي الحقيقة.. والتي لا ينزعج منها غير أبواق قطر.