يوسف الحسن يكتب:

حتى لا تذبل أرواح البشر

* الحروب والنزاعات، وحتى الأوبئة، مجرد فقاعات في مسيرة التاريخ. الأهم هو التحولات العميقة في المجتمعات، والتبدلات والمنعطفات التي تتم على المدى الطويل، لأنها تستغرق أجيالاً.

* لنتذكر حربين عالميتين، وعشرات الملايين من القتلى، وتدمير مدن، ونستحضر معاناة شعوب خلال الحرب، وبالأخص في ألمانيا واليابان، ونتوقف أمام التحولات الجذرية التي جرت في هذين البلدين، وكيف نهضا من الرماد، ليصنعا معجزتين في التنمية والسلوك والهوية المتطورة، ويرمما الجوانب المتصدعة في حياتهما، ويجسدا القانون والمساءلة والمواطنة المتكافئة، والمسؤولية والعدالة، والإبداع التنموي.

* نحتاج إلى فهم عميق وموضوعي، للتحولات الكبرى التي يشهدها العالم الآن، وتأثيراتها الإيجابية والسلبية في حياتنا، ومن بينها هذه الفوضى، وهذا الكرب العظيم الذي عاشه وطننا العربي خلال العقدين الماضيين ولا يزال، حيث تتعطل فيه إمكانات امتلاكنا القدرة على الاستيعاب والاستنتاج والاستشراف، وصياغة أنموذج للنهوض، وتجاوز المحنة.

* يشغلني ويحزنني وغيري، من الغيورين، انطفاء أنوار مراكز حضارية عربية، وانكسار مشروعات نهضوية «لم نحافظ عليها مثل الرجال». كما قالت ذات يوم مضى، عائشة الحرة والدة آخر ملوك غرناطة أبوعبدالله الصغير.

* وتسعدني وغيري من الغيارى، سواعد تطلق بشائر أمل في حياتنا العربية، علوماً ولغة وهوية، ومداواة جراح، وتسامحاً، وتزرع بذور خير وثقة بالنفس، وأحلاماً تكنولوجية، وتسعى لإدخال العلم إلى العقل العربي المعاصر، وتأسيس علوم جديدة، وإحداث تطور معرفي نهضوي ثري. وبناء روابط أفقية عميقة وإيجابية عبر المجتمع، ورفع الإنتاجية والكفاءة والخبرات الإنتاجية لدى المواطنين، وتوفير المشاركة السياسية، وضمان نمط إنتاجي مستدام، يضع الإنسان والبيئة والأجيال القادمة في صلب أهدافه وطموحاته.

* ويبقى السؤال الفلسفي مطروحاً على النخب والساسة وقادة الرأي والأعمال والأدب والتكنولوجيا والاقتصاد والاجتماع. وهو: هل يمكن تطوير البشرية روحياً وأخلاقياً، وتضامناً إنسانياً، أكثر مما يراد، وجار تطويرها تكنولوجياً؟

* حسناً... لقد ارتقى وعينا كبشر، وسيواصل الإنسان أحلامه التكنولوجية الطوباوية، وأحلام الذكاء البشري، بخلق آلات تعمل بطريقة أفضل من البشر، لكن ماذا عن أحلام الإنسان في مناخ مستقر، وبيئة آمنة، وتضامن إنساني، وقيم إنسانية وضمان مستدام لأمن الإنسان المائي والغذائي والنفسي والصحي والتعليمي، ومعالجة الخواء الأخلاقي والقيمي، إن على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة والمجتمعات، ومواجهة ضروب النزاع والعنف، وتأمين حقوق الأجيال المستقبلية، وأقصد هنا حقوق أبناء أحفادنا، وامتلاك الإحساس بالعدالة والإنصاف والثقة والرحمة والتعاضد والمسؤولية؟

* نعم.. ارتقى وعينا العلمي كبشر، لكن هل هذا الارتقاء سيحقق شرط بقائنا الجماعي؟.. لقد أدْمَنّا السرعة في كل شيء كبشر، وكأننا نسعى لإلغاء الزمن، في السفر والاتصال، ومنافذ البيع والشراء وخلافه، كما أدمن الشباب على الهواتف المحمولة الذكية والحواسيب، فهل سيفتح الباب أمام ظاهرة عيادات طبية لمعالجة هذا الإدمان الرقمي.. وماذا بعد؟ وهل ستختفي قدرات الإنسان على التأمل الذاتي، للابتعاد عن ضغوط الحياة وسرعة تطورها؟

* وفي ظل هذه التحولات الجارفة والعميقة، ألا تحتاج البشرية إلى منظومة أخلاق عالمية مشتركة، تستنبط مما حققته من حكمة وتقدم علمي وتقاني ومعرفي، وما التقت عليه وأبدعته البشرية والأديان والفلسفات، من مبادئ أخلاقية، ومواثيق ناظمة لحقوق الإنسان، ولثقافة احترام حق الحياة، وكرامة الإنسان، وعمران الأرض.

* ونعني أيضاً، تلك الأخلاق التي بلورتها التجربة الأخلاقية المشتركة للإنسان والتي تمكنه من تحصيل قدرات خلقية فائقة، لمواجهة أزمات البشرية المتعددة، في إطار بوصلة أخلاقية، وإحداثيات متفق عليها، ومعايير إنسانية مشتركة.

* الأنظمة الديمقراطية في العالم، ومعها أصحاب الحداثة، وهي الحداثة التي فاضت عن حاجتها، بشكل أغرق البشرية بفوضى رقمية لا تعرف الحدود أو الضوابط، كل هؤلاء، لم يجدوا حتى الآن حلولاً للنزاعات والحروب، ولا للكراهية والعنف والقلق، وتخريب الأرض وطبيعتها، ولا لمشاكل الفقر وهدر الموارد، وغيرها.

* كم من الزمن تحتاج البشرية، لكنس الفساد وبخاصة في السياسة والليبرالية المتوحشة، عن هذه الأرض؟ وكم من السنين، يلزم البشرية، لقلع القهر والفقر والأنانية والكراهية، قبل أن تذبل أرواح البشر؟