سمير اليوسفي يكتب:
ماذا خسر المسلمون بظهور الاخوان ؟ (2)
في الفترة التي سبقت تأسيس البنّا لجماعة الإخوان، حاول أستاذه محمد رشيد رضا التنظير لاستعادة الخلافة الإسلامية من مدينة الموصل العراقية؛ لكونها تجمع السنة والشيعة والأكراد، ولم يلق تجاوباً.. وماتت فكرته بعد إعلان أتاتورك قيام الدولة التركية، وسقوط الخلافة العثمانية. والغريب أنّ تنظيم "داعش" بعد قرابة 100 عام عليها وقبل 5 سنوات أعادها للحياة بإعلان العراقي "إبراهيم عواد" نفسه خليفة للدولة الإسلامية، في آخر خطبة جمعة من شهر شعبان من على منبر المسجد الجامع في الموصل، وغيّر اسمه إلى "أبو بكر البغدادي".
وكان المرشد السابق للإخوان "محمد مهدي عاكف" اعترف أنًه كان عصواً في التنظيم السري الذي شارك في حريق القاهرة في 26 يناير 1952 الذي سبق ثورة 23 يوليو بنحو 6 أشهر، معتبراً ذلك إحدى مساهماتهم في قيام الثورة.
والتهم الحريق نحو 700 محل وسينما وكازينو وفندق ومكتب ونادٍ في شوارع وميادين وسط المدينة ما بين الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرًا والساعة الحادية عشرة مساءً.
وبمجرد أن فجّر الضباط الأحرار ثورة يوليو ضد النظام الملكي، سارع الإخوان لتأييدها ودعمها، ووصفوها بالحركة المباركة وروجوا بعد نجاحها أنّ محمد نجيب وجمال عبدالناصر وغيرهما من قيادات الثورة كانوا مواظبين على حضور جلسات المرشد وأحاديثه كل ثلاثاء.. وفي حديث لجمال حماد –كاتب بيان الثورة الأول الذي قرأه السادات– قال: "إنّ عبد الناصر وخالد محيي الدين وعبد المنعم عبد الرؤوف وكمال الدين حسين لم يكونوا إخواناً فقط، بل هم جزء من التنظيم السري للإخوان المسلمين، أقسموا على الطاعة للإمام في المنشط والمكره، أمام عبد الرحمن السندي"..
وأكّد انتماءهم للإخوان أيضاً المرشد السابق محمد مهدي عاكف، في حوار تلفزيوني مع قناة "مكملين"، مشيراً إلى أنّ "الصاغ محمود لبيب مؤسس تنظيم الإخوان داخل الجيش كان المسؤول التنظيمي عنهم". ومؤكداً أنّ عبد الناصر حصل على أسماء أعضاء التنظيم الخاص من الصاغ لبيب، في مرض وفاته.
وفي سلسلة حوارات وثائقية نشرتها بعد الثورة مجلة المصور، تحت عنوان: (قصة ثورة الجيش من المهد إلى اللحد)، قال جمال عبدالناصر: "كان يجمعنا وينظمنا المرحوم الصاغ م.ل."..
كما ظهرت كتائب حركة الإخوان بشعارها في احتفالية الذكرى الأولى لثورة يوليو، ضمن العرض العسكري.. دلالة على عمق علاقتها بمجلس قيادة الثورة.. وتشير بعض الوثائق المفرج عنها من أرشيف الحكومة البريطانية عام 2014، كانت مرسلة من سفارتها في مصر بين عامي 1952 و1954، إلى أنّ تلك المودة استمرت لأكثر من عامين، ثم تحولت إلى قطيعة؛ بسبب محاولات الإخوان الوصاية على الثورة، وإصرارهم على عرض قراراتها على مجلس الإرشاد، للموافقة عليها قبل إصدارها، فانقلب الدعم إلى تحريض، وعنف، وتخطيط لانقلاب، واتصالات مع السفارة البريطانية لدعمهم مقابل بقاء الإنجليز في مصر.. والشروع بمحاولة الاغتيال المعروفة بحادث "المنشية" عام 1954، والتي دبرّها التنظيم الخاص واعترف بها المرشد السابق عاكف، في حواره مع قناة "مكملين" أيضاً.
وبتحليل محتوى أحاديث جمال عبد الناصر، يتضح أنّه كان قد أعاد الاعتراف بجماعة الإخوان المحظورة منذ مقتل البنّا، في الوقت الذي ألغى فيه كل الأحزاب السياسية بمشورة منهم.. كما تظهر خطاباته بعد أعوام سخطه من وصايتهم عليه، رُغم أنّه منحهم الفرص للانخراط في خدمة مصر دون إملاء أو أذى..
وفِي خطابه عقب محاولة قتله كان واضحاً أنّه خبير بخططهم ومكائدهم.
وكان أحد شباب الإخوان المنتمين للتنظيم السري قد قتل رئيس وزراء مصر النقراشي باشا بفتوى من فقيه التنظيم "سيد سابق" في ديسمبر 1948.. والسبب أنّه حظر نشاط الجماعة وصادر أملاكها بعد تورطها في أحداث عنف واغتيالات. وشاء الله أن يُقتل البنّا بنفس الطريقة بعد ثلاثة أشهر فقط، وبعد عام بالضبط من تحريضه على قتل إمام اليمن.
قبل 4 أعوام نشرت مجلة "الرجل" السعودية صورة نادرة للصفحة الأولى من جريدة "التاج المصري"، كانت تصدر في أربعينيات القرن الماضي، عن المحفل الماسوني في مصر، وفيها صورة لمقال بقلم سيد قطب، عنوانه "لماذا صرت ماسونياً؟"، ومما قاله فيه: "ثم لم ألبث حتى عجبت من أمر نفسي وساءلتها لم هذه الحيرة وهذا التردد؟ فأجابتني السؤال سهل وميسور، والجواب من القلب للقلب، فعرفت عندئذ أني صرت ماسونياً؛ لأنني أحسست أن الماسونية بلسم لجراح الإنسانية".
وللوهلة الأولى كدت أجزم أنّ المقالة مختلقة عليه، استناداً إلى أنّه قابل الموت بطيب خاطر كما تزعم مدونات الإخوان.. غير أني تركت مساحة للشك؛ تصديقاً لما أرّخه الاخوان عنه قبل انضمامه لهم، وأنّه كتب مقالة في الأهرام يدعو فيها صراحة إلى أن يعيش الناس عَرايا كما ولدتهم أمهاتهم" وهناك من كذّب المقالتين معاً.. ويحتاج الأمر لمزيد من الاستقصاء.
والأكيد أنّ كتب ومؤلفات سيد قطب -بعد عودته من بعثة لعامين في أميركا- نقلت جماعة الإخوان من تلفيقات البنّا التي تحتمل الأمر ونقيضه معاً، إلى هوية واضحة التطرف تتسم بتكفير الأفراد والمجتمعات، ونسبتها لجاهلية ما قبل الإسلام.. كما أنّ تضييق عبد الناصر الخناق على الإخوان وتصديره للثورة ضد الأنظمة الملكية في المنطقة ودعمه لها بالمقاتلين والسلاح والمال وإصراره لاحقاً على إعدام سيد قطب.. كل ذلك سمح بانتشار فكر الإخوان في السعودية ومعظم دول الخليج؛ باعتبارهم يشكلون المعارضة القوية التي يُعوّل عليها للقضاء عليه أو إضعافه.
وجاء صعود الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز لعرش المملكة ليُمثل طوق نجاة للإخوان المسلمين، فوجه باستيعاب الهاربين من حكم عبدالناصر بوظائف في مختلف المدارس والمعاهد العلمية والجامعات، علاوة على المساجد والجوامع ومراكز التأثير على اختلافها.. نتج عن ذلك خلق منافسة بينهم وبين من تبقى من السعوديين متأثراً بجماعة "إخوان من أطاع الله"، ومنهم جهيمان العتيبي المولود عام 1936، الذي عاش فترة من التيه هرّب فيها المخدرات إلى السعودية، وفقاً لفيلم أعدته قناة الـ BBC العام الفائت عن حركته.. قبل أن يعود للسير على خُطى والده الذي قاتل إلى جانب رجال القبائل من «إخوان من أطاع الله» ضد الملك عبد العزيز بن سعود، في معركة السبلة. وفي أعقاب القضاء على حركته التي اقتحمت الحرم..
واستمر تنافس الإخوان المسلمين مع الجماعات السلفية التي نشطت في السعودية، ومنها "إخوان بريدة" والسروريون.. تحت لافتة "الصحوة الإسلامية" ولم تجد السعودية بُدّاً من فتح المنافذ لهم للذهاب إلى اليمن وأفغانستان.
كما وجهت السعودية بعد مصالحتها بين الجمهوريين والملكيين في اليمن، باستنساخ معاهدها العلمية وتسليمها للإخوان الذين كان يتقاسمهم الإمام البدر والشيخ الأحمر.. وزادت في دعمهم بعد الحاجة إليهم لمواجهة زحف الحزب الاشتراكي المدعوم من السوفييت باتجاه الشمال.
فاستغل الإخوان تلك الأحداث لتشكيل عقول الناشئة الذين صاروا بعد عقدين تياراً جارفاً يطلق عليه تيار الصحوة، يمتلك مئات الآلاف من المقاتلين...
(يتبع).