كرم نعمة يكتب:

لا فرق احتجبت أم صدرت!

نشر أحد الزملاء صورة شاحبة لمنصة عرض الصحف في متجر في العاصمة العمانية مسقط أيام عطلة عيد الفطر، كانت أشبه بالفارغة لولا وجود حزمة ضئيلة من صحيفة محلية تصدر باللغة الإنكليزية تهتم بشؤون الوافدين الأجانب، أما الصحف المحلية فقد تعطلت على مدار أيام العيد بعد شهر ضاج بتكرار التقارير الرمضانية.

لا يعني أن هذا المشهد الشاحب مقتصر على الصحف العمانية وحدها، بل إنه يعكس صورة جمعية تعبر بامتياز عن واقع الصحافة في الدول العربية، في العراق مثلا تتعطل الصحف (هل تمتلك جدوى إصدارها؟) على مدار أسابيع تحت وطأة عُطل عبثية مسكونة بالخرافة التاريخية تفرض على مؤسسات الدولة وتعطل المصالح العامة، وآخر ما يفكر به العراقيون إن كانت الصحف صدرت أم لا!

لم يثر مشهد الفراغ في منصة عرض الصحف أي مواساة من القراء (أين هم اليوم؟) أما الصحافيون فإنهم كانوا أسعد من غيرهم في وقت مستقطع يلتفتون فيه إلى شؤونهم الشخصية، ويمنحون الذهن مساحة استرخاء بعيدا عن توتر وتواتر الأخبار، العقل التحليلي توقف مؤقتا.

ولأنهم تمتعوا بسعادتهم المؤقتة لم يشعروا بإهمال القراء لعطلتهم، فلم يكن لها أي تأثير على الناس، غالبية الناس!

سواء بقيت منصة الصحف شاحبة لا تحتوي على غير صحيفة واحدة أو امتلأت ببقية الصحف بعد عودة إصدارها، فإن عيد الصحافة لا يمس غير الصحافيين بعد أن تجاهلهم القراء، وهذا خبر محزن -لسوء الحظ – ينبغي أن يفسد إجازة الصحافيين إبان أيام عيد الفطر.

يمكن أن نقيس الأمر على الصحافة البريطانية التي تحتجب ليوم واحد فقط في السنة، عندما تتوقف الحياة تماما في أعياد الميلاد قبل نهاية العام بأيام، لكن الفرق أن البلاد برمتها معطلة هناك ولا حياة تدب في الطرقات. أما احتجاب الصحف العربية فهو متعلق بها فقط وغير متأثر بسلوك القراء الذين يرون أنها غير جديرة بالثقة ولا يجدونها قادرة على تغيير أوضاعهم لمكانة أفضل.

من حق الصحف البريطانية الشعبية أو الجادة أن تشتكي من “نكبة التوزيع” بعد أن تقلص توزيعها من مليون نسخة إلى مئة ألف مثلا، لكن ماذا بشأن صحافتنا العربية التي بقيت طوال تاريخها غير معنية بفكرة التسويق بقدر عنايتها برضا الحكومات!!

بات الناس أكثر إحجاما للتخلي عن الأخبار، هناك شكوك على نطاق واسع، وارتباك وعدم ثقة في الصحافة السائدة منذ أن ساد مصطلح ما بعد الحقيقة قبل سنوات، لقد تبددت الثقة في الأخبار بكونها أفضل الطرق التي تساعد الناس على فهم عالمهم. بل إن وسائل الإعلام التي حافظت على الأخبار الصادقة القوية تمّ كسرها بقوة المال والسياسة.

ومن المهم بمكان أن ندرس تأثير غياب الصحف العربية على القارئ خلال أيام احتجابها، هل تسببت له بانقطاع عن مادة مهمة يفترض أن يعرفها في وقت مناسب، هل غابت المعلومة عنه ولم يكن يجدها إلا في صحفه المفضلة، هل افتقد شيئا ملموسا كان يدب بين أصابعه عند قراءة الجريدة؟ أم أن الأمر في النهاية لا أهمية له سواء صدرت الصحف أم احتجبت؟

إن الإجابة وإن كانت نسبية لكنها تمثل خيبة بامتياز للصحافة العربية التي فقدت تأثيرها، منذ سنوات! والأمر غير متعلق بالعصر الرقمي وتأثير الصحافة الإلكترونية وتوفر البدائل الإلكترونية للمتصفحين، بل يعود إلى انعدام تأثير الصحافة المحلية على القارئ، لم تعد تمثل له الشغف القديم، وليست مصدرا للمحتوى المتميز والمعلومة التي يبحث عنها. الصحافة العربية لم تتخلص بعد من ولائها القديم للحكومات، يكفيها أن تكون على طاولة المسؤول صباح كل يوم شاعرا بالرضا عنها، فعدم إغضاب المسؤول مازال على درجة من الأهمية والحذر بالنسبة للصحف العربية. دعك من الكلام عن الخطوط الحمر التي تعلقها أمام كادرها.

في وسط هذه الأخبار السيئة أبحث هنا عن مساحة أمل، وزملائي الصحافيون مثلي يديرون القصة التي تدور على نفسها منذ سنوات بعد أن دخلت الصحافة إلى السوق المريضة.

يعزو الزميل هيثم الزبيدي رئيس تحرير صحيفة العرب اللندنية ذلك إلى تردي المحتوى، ويكتب في مقال عن البكائين الذين يشتكون اليوم من تردي توزيع الصحف العربية، فهم ما عادوا بقادرين على اجتذاب اهتمام ذلك القارئ الوحيد، ولا هم يمتلكون القاعدة الجماهيرية التي تؤهلهم للبقاء “أرقام التوزيع القليلة بالأصل انخفضت إلى الحضيض، لم يلاحظ أغلبية الناس اختفاء ما كان غير حاضر بالأصل”.

لا أحد سأل عن غياب الصحف العربية بعد احتجابها، بل لا أحد تفقدها بعد انتهاء عطلة عيد الفطر وعودتها للإصدار، فهل صار سيان للقارئ إن صدرت الصحف أم احتجبت؟

احتجاب الصحف العربية في عيد الفطر كان مناسبة متجددة لإعادة قراءة الصحافة العربية لمتنها المتردي، فالعمل الشاق الذي يبذله الصحافيون في مطبوعاتهم على مدار يوم كامل لم يعد يظهر له أي تأثير عند القراء في اليوم التالي، لهذا لم يسأل الجمهور عن “صحافتهم التي كانت مفضلة” بعد احتجابها الأسبوع الماضي.

وتبدو لي مشكلة الصحافة التي تعيش زمنا ليس عادلا بحقها، تكمن في محتواها الذي لم يتغير وليس تداعيات العصر الرقمي وحده، الأمر الذي أفقدها ثقة القراء الأوفياء بها قبل القراء العاديين.