د. ابراهيم ابراش يكتب:

ثقافة الشك والإحباط تهديد لحصانة المجتمع

لا تنهزم وتنهار الأمم فقط بالهزائم العسكرية أمام عدو خارجي، بل أيضا بتدمير حصانة المجتمع داخليا. فالمجتمعات/الدول غير المحصنة حالها حال جسد الإنسان غير المُحصن. فكما أن الجسد غير المُحصن يكون من السهل اختراقه وتعُرضه للأمراض وبالتالي للموت، كذا هو الحال مع المجتمعات غير المُحصنة تكون عُرضة للعدوان الخارجي ولديها القابلية للاحتلال والخضوع وللانهيار والفشل الداخلي .

تتأتى حصانة المجتمع/الدولة من اعتبارات متعددة، وإن كانت الثروة وكثرة عدد السكان واتساع رقعة الأرض والقوة العسكرية عوامل تؤخذ بعين الاعتبار إلا أنها لا توفر لوحدها الحصانة للمجتمع. عوامل كثيرة تؤشر على قوة حصانة المجتمع وقدرته على مواجهة التحديات الخارجية والداخلية منها: نمط الثقافة الاجتماعية والسياسية السائدة ومدى استجابتها لمواجهة التحديات، مدى الإيمان والاعتزاز بالثقافة والهوية الوطنية حيث الثقافة والهوية كالغراء الذي يربط المكونات الاجتماعية بعضها ببعض، التركيبة السسيولوجية والقواسم المشتركة أو درجة الاندماج بين القوميات والطوائف والمذاهب داخل المجتمع، طبيعة النظام السياسي، الوضع الاقتصادي، الموروث التاريخي ونمط الثقافة الدينية، الخ.

سنتطرق لعنصر واحد إن اختل فإنه يُضعف حصانة المجتمعات والدول وهو نمط الثقافة السائدة في المجتمع. حيث أن تعريف الثقافة أمر إشكالي كما هو تعريف المثقف فسنعتمد تعريفا إجرائيا مختصرا للثقافة يشكل قاسما مشتركا بين كل من قارَبَ موضوع الثقافة: "الثقافة نمط أو أنماط السلوك والتفكير السائدة في المجتمع". انماط وأشكال الثقافة متعددة، نجد ثقافة الديمقراطية، ثقافة الاستبداد، ثقافة المقاومة، ثقافة السلام، ثقافة الحرب، ثقافة الكراهية، ثقافة الحب، ثقافة الصورة، ثقافة اليأس والإحباط، ثقافة وطنية، ثقافة قومية، ثقافة دينية الخ.

قد يتغلب نمط من الأنماط على غيره، وقد تتعايش كل هذه الأنماط الثقافية بنسب متفاوتة في المجتمع وقد تتراجع أو تتقدم أهمية ثقافة ما على غيرها من زمن إلى آخر بسبب ما يطرأ على المجتمع من تطورات، كالانتقال من ثقافة الاستبداد والخضوع إلى ثقافة الديمقراطية أو من ثقافة المقاومة إلى ثقافة السلام الخ.

هناك أنماط من الثقافة تعزز من حصانة المجتمع وقدرته على مواجهة التحديات الخارجية والداخلية، وهناك أخرى تؤدي دورا معاكسا بحيث تُضعف هذه الحصانة، ومنها ثقافة الشك وانعدام الثقة والإحباط واليأس وهناك رابط قوي ما بينهم، فالشك يودي لانعدام الثقة وكلاهما يؤديان للإحباط واليأس.

ثقافة الشك معناها انعدام الثقة والتي تبدأ بأن يشك الشعب بالقيادات والنخب، وتشك الأحزاب بعضها ببعض لدرجة التخوين، وتشك النقابات بأرباب العمل، ويشك المواطن بجاره والأخ بأخيه والصديق بصديقه، وتتدرج الأمور لتصل لأن يشك الشخص بنفسه وبقدرته على فعل أي شيء.

في ظل ثقافة الشك والريبة وانعدام الثقة تتراجع ثقافة الانجاز وروح المبادرة وتصبح أية مبادرة أو تصرف يصدر عن حزب أو جماعة أو مثقف ومفكر الخ محل شبهة ويتم التعامل معها/معه بحذر وشك وتكون التهمة جاهزة بأن وراء هذه المبادرة أو التصرف مصلحة خاصة أو علاقات مشبوهة مع طرف خارجي أو خصم وطني، ويتحول المثل أو المبدأ القانوني القائل: "المواطن بريء ووطني إلى أن يثبت عكس ذلك" ليصبح "المواطن مُتَهم ومشكوك فيه إلى أن يُثبِت براءته ووطنيته".

في ظل هكذا حالة لا يمكن تحقيق أو مراكمة انجازات وطنية حتى الشهداء يتم التشكيك بدوافعهم وبأهداف من يقف ورائهم وهل هي دوافع وطنية أم غير وطنية، ونعود إلى تساؤلات الحلقة المفرغة، ما هي المصلحة الوطنية؟ ومَن يحددها؟وما مرجعيتها؟ وكل ذلك يؤدي لضياع ما يمكن تحقيقه من انجاز لو تم التعامل مع المبادرة أو التصرف بحسن نية.

عندما تنتشر ثقافة الشك تتفسخ الرابطة الوطنية الجامعة والضمير الجمعي والمؤسسات الوطنية الجامعة وتتراجع الدافعية للعمل الوطني مما يستدعي ثقافة الإحباط واليأس من القدرة على فعل شيء لتغيير الواقع وتتردد مقولة "مفيش فايدة" الأمر الذي يؤدي للانطواء على النفس وحالة من الاغتراب داخل المجتمع وربما البحث عن جماعات متطرفة للانضواء فيها رغبة في الانتقام من المجتمع، أو الهجرة خارج الوطن.

لا يقتصر الأمر على المستوى الشخصي بل يتعدى ذلك إلى الشأن الوطني عندما تؤدي هذه الثقافات السلبية إلى الاستسلام للأمر الواقع وتتراجع الدافعية للتغيير السياسي والاجتماعي، كما أن الجهات الخارجية المعادية تعمل بدورها على تعزيز هذه الثقافات لتفتيت الجبهة الداخلية وكي وعي الجمهور من خلال نشر الاشاعات والتشكيك بالقيادات الوطنية والتاريخ الوطني.

لا ريب أن هكذا ثقافات ليست مقتصرة على الحاضر بل هي ظاهرة اجتماعية موجودة عبر التاريخ، فالناس شككوا بوجود رب العالمين وإلى اليوم ليس عليه إجماع من البشر، وشككوا بالأنبياء والرسل وتم اضطهاد بعضهم وتعذيبه، وشكك أبناء الشعب الواحد بالقادة العظماء ومفجري ثوراتهم التحررية وبعضهم تم تكفيره وتخوينه وآخرون تم سحلهم في الشوارع أو تعليقهم على المشانق من طرف أبناء جلدتهم، ومات بعض الكُتاب والمخترعين الكِبار وهم فقراء ونَكِرات ومشكوك بهم وبأعمالهم، ولم يَكتشف الناس عظمتهم وأهمية مخترعاتهم وأفكارهم إلا بعد مماتهم.

هذا كلام صحيح، ولكن الشعوب التي أخذت بناصية العلم والحداثة والديمقراطية تجاوزت هذه الثقافات أو على الأقل حدَّت من وجودها لتصبح مجرد ظواهر مَرَضيّة معزولة، أما في عالمنا العربي فنشهد انتكاسة وعودة لهذه الثقافات السلبية وكأن الأمر مبرمج وموجه لشد العرب للماضي وتفكيك كل الروابط التي يمكن أن تجمعهم وتوحدهم لمواجهة متطلبات العصر، ولكن في نفس الوقت ليس دائما الآخرون أو البرانيون مسئولين عما نحن عليه، وقد يحتاج الأمر للتفكير بجدية بمفهوم الوطن والوطنية، والثقافة العربية والعقل العربي، بل وإعادة تعريف لمفهوم الأمة العربية والمشروع القومي العربي.