د. ابراهيم ابراش يكتب:

الوجه الآخر لتركيا

يبدو أن فوضى ما يسمى الربيع العربي لم تتوقف فما أن ينتهي أحد فصولها أو جولاتها حتى يبدأ فصل جديد وبأساليب وأدوات جديدة، تهدأ الأمور في ساحة فيتم التخطيط لنقل الفوضى في ساحات أخرى، وقد تطال الفوضى دولاً كانت مشاركة في نشر فوضى الربيع العربي كدول خليجية وإيران وتركيا، فتركيا لن تكون بعيدة إن خانتها حساباتها في عدوانها على سوريا.

مع أنه سبق للجيش التركي دخول شمال الأراضي السورية عام 2016 إلا أن دخوله الأخير يوم التاسع من أغسطس 2019 أكثر خطورة ويأتي في سياق محاولة رسم خارطة جغرافية وسياسية جديدة ستؤثر على وحدة وسيادة الدولة السورية. كما أن هذا العدوان الجديد جاء بمباركة أميركية ومباشرة بعد إعلان الرئيس ترامب عن سحب القوات الأميركية من سوريا، وتحذير وتهديد ترامب لتركيا بالعقاب والعقوبات الاقتصادية إن تمادت في توغلها شمال سوريا لا يغير من حقيقة أن تركيا ما كانت لتقوم بعدوانها لولا الضوء الأخضر الأميركي.

تبرر تركيا خطوتها العدوانية بأنها تأتي في سياق حقها بالدفاع عن نفسها في مواجهة خطرين:

الأول يتأتى من المسلحين الأكراد أو قوات حماية الشعب الكردي المتحالفين مع قوات سوريا الديمقراطية لأن تواجد عسكري وسياسي كردي مستقل في شمال سوريا سيعزز ويستنهض الروح القومية عند أكراد تركيا مما يدفعهم للمطالبة بحقهم بالاستقلال أو بوضع متميز كما هو الحال في العراق وسوريا، وهذا تعتبره تركيا تهديداً استراتيجياً لأمنها القومي ووحدة أراضيها.

الخطر الثاني يأتي من ملايين اللاجئين السوريين في الأراضي التركية، وتركيا تريد فرض مناطق آمنة شمال سوريا لإعادة اللاجئين السوريين إليها.

قد تبدو مبررات تركيا لعدوانها معقولة لو لم يكن هناك دولة سورية لها سيادة أيضاً، ولو لم تكن تركيا من أهم الأطراف التي لعبت دوراً خطيراً في نشر حالة الفوضى في سوريا، كما سنوضح ذلك.

ما تقوم به تركيا في سوريا عدوان واحتلال مدعوم أميركياً ولا عذر لتركيا بأن تبرر عدوانها بحق الدفاع عن النفس وحماية حدودها وجبهتها الداخلية من حالة الفوضى في سوريا أو عدم قدرة الدولة السورية على فرض سيادتها على كامل الأراضي السورية لأن تركيا تتحمل مسؤولية كبيرة عما يجري في سوريا من خلال تسهيلها دخول الإرهابيين والمتطرفين للأراضي السورية بتنسيق مع الغرب وخصوصاً واشنطن كما أن الأسلحة بكل أنواعها التي استعملها الإرهابيون ضد الجيش العربي السوري كانت تمر عبر الأراضي التركية وبموافقة الدولة التركية، كل ذلك في سياق مؤامرة ما يسمى الربيع العربي لتقويض أركان سوريا العربية. ولولا الدور التركي المشبوه لكان الجيش السوري قادراً على حسم الأمور منذ أيامها الأولى.

قد يقول قائل إن التدخل التركي كان دعماً وإسناداً لثورة الشعب السوري ضد استبداد النظام. إلا أن تحالف تركيا مع واشنطن ودعمها لجماعات متطرفة لا تؤمن بالديمقراطية وغالبيتها مجلوبة من جهات العالم بدعم وتمويل غربي وخليجي لهدف وحيد وهو تدمير الدولة العربية السورية كما جرى في ليبيا وما يحاولونه في مصر، هذا يفند الزعم بأن التدخل التركي كان لأهداف إنسانية أو دفاعاً عن الديمقراطية وحرية الشعب السوري.

والغريب في الأمر أن تركيا ساندت في البداية جماعات متطرفة وغير ديمقراطية ثم تخلت عنهم مؤقتاً بعد أن أنجزوا مهمتهم في خراب وتدمير الدولة وتقوم بتجميع الآلاف منهم في معسكرات داخل الأراضي التركية أو في مناطق داخل الأراضي السورية غير خاضعة للجيش السوري وقد يكون الهدف توظيفهم وتحريكهم عند الضرورة في العدوان الجديد على سوريا أو إرسالهم لمناطق أخرى، بينما وقفت موقفاً سلبياً بل معادياً لجماعات معارضة سورية ديمقراطية لأن هذه الجماعات تشمل أكراداً ترى تركيا أنهم يهددون أمنها ووحدة أراضيها

كل الشعارات التي ترفعها تركيا حول دعمها للشعب الفلسطيني ومساندتها للشعوب العربية الثائرة ضد الظلم والاستبداد أو دعمها لما يسمى نهج الإسلام المعتدل الخ لا يمكنه اخفاء مطامعها ورغبتها بالهيمنة وكراهيتها وحقدها التاريخي الموروث للعرب وللمشروع القومي العربي وأنها عضو في الحلف الأطلسي، وتدخلها في الشؤون الداخلية لمصر وليبيا ودعمها لجماعات المعارضة فيها يؤكد ذلك، كما أن أطماعها في سوريا ليست جديدة وقضية لواء الاسكندرونة السوري الذي تحتله تركيا ما زالت حاضرة.

لا شك أن الأكراد أكثر المستفيدين من كل الحروب وحالة الفوضى التي تجري في المنطقة فقد استفاد أكراد العراق خلال حرب الخليج الثانية وعند سقوط نظام حسين عام 2003 وهم اليوم أقرب للدولة في العراق، وأكراد سوريا استفادوا مما يجري في سوريا واستطاعوا الاستحواذ على حيز جغرافي ملاصق للأراضي التركية وهو ما يثير قلق الأتراك، ولكن كان على الدولة التركية أن تحل مشكلتها مع أكرادها داخليا بالتجاوب مع مطالبهم القومية المشروعة بدلاً من الهروب باحتلال أراضي دولة أخرى ذات سيادة.

وأخيراً كان من السهل على تركيا دخول الأراضي السورية ولكن هل تستطيع تحقيق أغراضها والخروج سالمة من سوريا أم أن ما أقدمت عليه سيستنزفها وسينقل الفوضى لداخل أراضيها؟ وهل استوعبت الدول العربية الدرس وبدلا من خطابات التنديد والاحتجاج والدعوة لمؤتمرات عليهم إعادة العلاقات مع الدولة السورية والتواصل مع بشار الأسد والجلوس معه لمناقشة الأمر؟