علي الصراف يكتب:
أفهل أبقى الشيطان سرا؟
ما من شعب تعرض للغدر مثل الأكراد. تاريخه كله يكاد يكون الغدر هو عنوانه الوحيد، من المصير الكارثي الذي انتهت إليه جمهورية مهاباد، إلى ما يواجهه الأكراد في سوريا الآن.
ولكن العيب لا يقف عند حدود الأدوار الخارجية، أو تضاربات المصالح المحيطة بهم، أو طبيعة الكيانات التي انقسم هذا الشعب ليكون مُجزّءا فيها ويعجز عن نيل أدنى حقوقه المشروعة.
العيب الأهم هو سوء الخيارات، وسوء التدابير.
قبل أن يذهبوا إلى طرح موضوع الاستفتاء على الاستقلال في كردستان العراق، اُنْظر على من كانوا يراهنون. لقد راهنوا على الولايات المتحدة، كما راهنوا على إسرائيل، بل وتعدى الرهان إلى نوع من تبني رديء للخطاب الصهيوني نفسه. حتى لم يعد غريبا، مع تفشي هذا الخطاب الأرعن، أن يرى المرء أعلام إسرائيل ترفرف مع أعلام كردستان.
لقد ظنوا أنهم، بالتحالف مع إسرائيل، يمكنهم أن يحظوا بدعم يكفي للبقاء، وقالوا “طز” بكل مشاعر جيرانهم العرب، بل وأكثر منها لكل المسلمين أيضا.
ارتدّ ذلك كله عليهم في نهاية المطاف. هذا من دون أن يفعل العرب ولا المسلمون (بصفتهم هذه) أي شيء، ولا حتى بالقول: “يا للعار”. إذ خسأ الذين أخذوا بهذا الخيار أنفسهم بأنفسهم.
ليس مُهمّا، كيف أخطأوا قراءة الواقع. كما لم يعد مهما أنهم لم يفهموا طبيعة الدول المحيطة بهم نفسها ولا ارتباطاتها أو تحالفاتها أو مخاوفها، أو حتى طبيعة النظام الدولي نفسه، الذي إذا لم تتغير مكوناته، فإن من خلل المنطق التفكير بتغيير خرائطه.
لقد أخطأوا في ما هو أهم من ذلك بكثير. وكرروا الخطأ مرتين، وكأنهم يتعمدون القول إن من لا يؤمن يلدغ من جحر مرتين. ولقد لدغوا، لدغة أسوأ من أخرى.
معركة الاستقلال، كليا كان أو جزئيا، هي معركة حرية أولا. والحرية لا تتحقق بالشراكة مع الظالم.
لقد تشارك الأكراد مع نوعين من الظالمين: الاحتلال الأميركي، والمشروع الصفوي. وحسبوا أن التواطؤ مع القوي، يكفي لنيل المراد، ولو كان ذلك على حساب الشعب العراقي كله.
الخلل في هذا الحساب جليّ. فحتى لو تحقق المراد، فإن المظلوم لا يبقى أبد الدهر مظلوما. والمعادلات التي تتأسس على باطل، لا بد لها في النهاية أن تنهار.
هذا ليس كلاما نظريا. ولا هو كلاما عاما. إنه وقائع تثبت، كما يرى المرء الآن، أن المعركة قائمة، وأن المظلومين والمضطهدين من أبناء هذا البلد ينتفضون، وسيظلون ينتفضون حتى يستقيم الحق ويزهق الباطل.
السبب الظاهر الآن، هو الفساد. والفساد جزء من طبيعة النظام الذي أقامه الظالمون. وهو سينهار على رؤوسهم ذات يوم. تلك هي طبيعة الأمور. فالفساد لا يبني دولة، ولا يقيم نظاما قابلا للحياة. ولا يجدر الرهان عليه، فما بالك الشراكة معه؟
ولقد تلقى الرئيس مسعود بارزاني وعودا من البيت الأبيض. واستقبل هناك استقبال الزعماء. ولكن الحقائق الأخرى هي التي غلبت. فانهار حلم الاستفتاء على الاستقلال كما ينهار قصر الرمال. بل وخسر الأكراد “قُدسهم” أيضا. (لاحظ اللغة)، إذ يقصدون كركوك. وما كركوك بموطئ قدم رسول، ولا هي أرض رسالات، وإنما بئر نفط. حتى ليكاد الخزي ينبع من ذلك الوصف الرخيص.
وما من أحد قاتل الإرهاب، مثلما قاتل الأكراد. وما من بسالة كانت إلا بسالة شبانهم وشاباتهم من كوباني حتى الرقة.
لقد كان ذلك قتالا أصيلا، لشعب لا يريد أن يُستعبد مرتين. ولكن تم توظيف تلك البسالة، والنصر نفسه ضد دولة داعش، لحساب التحالف مع الولايات المتحدة في سوريا، حتى ولو من دون المطالبة بأي استقلال. فغدر الرئيس دونالد ترامب بهم. فعل ذلك لأنه محكوم بمتطلبات الدفاع عن عضو في الحلف الأطلسي. بل ومحكوم بالأخذ بمعاييره الأمنية أيضا. فترك الفراغ ليملأه رجب طيب أردوغان.
بماذا، إذن، أخطأ الأكراد هنا وهناك؟
لقد تحالفوا مع الشيطان، لخدمة الشيطان. فلمّا حقق ما يريد لنفسه، ركلهم. وتلك عاقبة من يخطئ في الحساب.
معركة الحرية، كان يجب أن تخاض مع قوى الحرية والتغيير، لا مع أي احتلال.
هذه القوى، هي وحدها التي يمكنها، عندما يتم بناء دولة على مقومات العدل والإخاء والمساواة وقيم القانون، أن تمنح الأكراد حقوقهم.
الشعب الحر، لا يضطهد شعبا آخر، بل يحترم حقوقه ومطالبه. بينما لا يمكن لشعب أن ينال حريته وهو يمعن في ظلم شعب جار. معادلة كهذه لا يمكنها أن تستقيم حتى وإن بدت مغرية. ولقد كانت، على أي حال، من إغراءات الشيطان الذي انتهى إلى ركلهم مرتين.
معركة الحرية، الخاصة بالشعب الكردي، كان يجب، بعبارة أخرى، أن تخاض مع الشعب العراقي، مع قوى الحرية والتغيير فيه، ضد الاحتلاليْن الأميركي والإيراني للعراق، لا معهما. ولو كان لا بد من الصمت حيال الغزو عام 2003، خوفا وخشية، فما كان من اللازم التحالف مع المشروع الصفوي، ولا الشراكة مع أركانه.
أعرف أن أكراد العراق لم يتعلموا هذا الدرس بعد. وما يزال الشيطان يغويهم بما أبقى لهم. ولكن ماذا عمن يجدون أنفسهم الآن يُستعبدون مرتين، من أكراد سوريا؟
أفهل لهم طريق آخر غير التخلص من سلطتي الاستبداد والاحتلال؟ أفهل يمكن المضي بهذا الطريق بتجاهل قوى الحرية والتغيير التي تواجه المشروعين الإخواني التركي والصفوي الإيراني، وهما وجهان لعملة واحدة؟ بل قل: أفهل أبقى الشيطان سرا يُخفي به حقيقته، لكي نُلدغ من الجحر نفسه ثلاث مرات؟