د. علوي عمر بن فريد يكتب:
ليتني لم أكبر!!
كنا في سن الطفولة والبراءة نلعب في فصل الشتاء العابآ عديدة منها (الول,والقاش ,والهجه ,والنصاع والسباق) في "وادي مربون " في الصعيد .. وكنا نشعل النار ونتحلق حولها ونكوي أيادينا بأعواد الحطب و القصب و الذرة (القرط) بعد أن نضعها في النار حتى تحمر ثم نضعها على سواعدنا بلذعة سريعة حتى يبقى أثر اللسعة ظاهرا على الساعد الغض الصغير حتى نبرع في الرماية كما تقول الأساطير.. ثم نتحلق حول النار ونمد أيدينا لنستمد الدفء والحرارة أيام الشتاء الباردة ....كنا نتسابق لصيد العصافير بوسائل عديدة منها المنطب ,والطوب الهدال الذي نضعه في أعواد صغيرة على عتوم الماء الجارية في الحقول
ومن يحضر منا عصفورا أو حمامة يتباهى بها أمام أقرانه من الصبية ثم نشويها ونأكلها معا ..كنا نتقاسم الفرح .. نغني معا ونضحك ونبكي معا... إلا أننا كنا في منتهى السعادة وقمة الفرح ..لا ندري أن الأيام ستحمل لنا الأسوأ..!!
.وبدأ سفك الدماء على ثراك يا وطني حين قام وحوش من أبناء جلدتنا يقتلون الشرفاء من رجال الوطن ..ويغتالون البراءة والطفولة...ويدفنون أحلامنا ,ومن ذلك ما حدث لأحد رفاق الطفولة الذين كنت العب معهم....عندما قتل أبيه الضابط في الأمن في اشتباك مسلح ومعه اثنان من العسكر ...شاهدت جثامينهم مسجاة في
وادي يارومه تحت شجرة الأثب الضخمة...وتحجرت الدموع في عيوني من
هول الصدمة وقفلت راجعا إلى الحي المجاور لنا وإذ بالنساء يصرخن بأصوات عالية تشق عنان السماء ويجرين حول البيوت في نوبة بكاء هستيرية .. بعد أن وصل إليهن الخبر وتلبسني حزن عميق و تكورت على جذع شجرة سدر والألم يعصرني من هول المشهد وإذا بواحد من رفاق طفولتي يقبل من بعد ويسأل الرجال والنساء
ولم يخبره أحد بما حدث واتجه نحوي وتمسك بثيابي يجذبني بكل قوته
لماذا تبكي النساء ؟ وما الذي جرى ...أجبني؟
ويستحلفني أن أخبره ...ترددت
ازداد تمسكا بثيابي ...وهو يهزني ويقول:الست صديقي لماذا لا تخبرني؟؟؟؟
وأنا مشفق عليه من هول الصدمة.. وبعد ترددي أخبرته بالحدث الجلل وأبلغته بمقتل أبيه في ذلك الاشتباك!!
بكى وبكيت معه ..سقط على الأرض ...وأخذ يرتجف كورقة في مهب الريح ويتمرغ في التراب ويتلوى
من الألم أسندته بذراعي النحيلتين حتى وقف وقال لي : خذني إلى هناك
أريد أن أرى أبي..وذهبنا على عجل ... وأنا أواسيه بالقول : لست وحدك يا صديقي من فقد أباه فانظر حولك وسترى أن الوطن أصبح كله لوحة دامية !!
و بعد سنوات من تلك الحادثة قابلت صديقي خارج الوطن وقلت له : أرأيت ما فعل فينا الاستقلال المنقوص؟؟ لقد أصبح الوطن كله ينزف دما بعد أن نهشته الاغتيالات والحروب ، وأدمت جوانبه وشردت أبناءه ويتمت أطفاله وضيعت مستقبله ورحل الآلاف من أبنائه وأصبح الوطن كله رهينة بيد الطغاة... الذين يتناسلون كل يوم بالمئات من الجلادين والقتلة ..هكذا كانت ترسم صورة وطني لوحة سوداء قاتمة على جوانبها حروف مبعثرة مكتوبة بالدم دون عناوين لا يستدل بها على حال أو مكان ولا يعرف لها قرار أو بداية أو نهاية!!
خريطة حمراء قانية ملطخة بدماء أبناء وطن واحد .. يقتلون بعضهم بعضا منذ خمسين عاما ..تنتشر قبورهم في كل قرية وتبكي شواهدهم عليهم ولا تحمل أسمائهم ولا يستدل عليهم إلا من واروهم الثرى خلسة .. أما الأغلبية فلم يجد لهم أهاليهم لا أجسادا ولا قبورا ولا شواهد وقد دفنوا في الصحاري والفلوات وسط الرمال أو ذابت جثمانيهم في الآبار المهجورة ولم يعثر عليهم أحد !!!
أكثر من خمسين عاما وشعبنا يواجه الموت والدمار كل يوم في معارك الرفاق وموجات غزو الشمال وقبائل الهضبة من المتدثرين بالدين يوعظون الناس من على المنابر نهارا ويذبحونهم ليلا وحروب بالوكالة ..معارك خاسرة ضد بعضنا البعض لا غالب ولا مغلوب فيها... والخاسر الوحيد هو الوطن وأبناء الوطن!!
وعندما كبرنا لم نتعلم رغم كل المآسي والنكبات.. لم نتعظ من كل ما مر علينا ولم نستوعب دروس الحياة وتجارب التاريخ .. وعندما هب الأشقاء في المملكة العربية السعودية والإمارات لنجدتنا.. كابرنا واختلفنا وزادت مساحة وحدة الخلافات فيما بيننا تشرذمنا وتفرقنا أيدي سبأ... فمنا من اعترض بحروف وكلمات باهتة لم يقرأها عابر سبيل مر في سوق الكلمات يبيع ويشتري مصطلحات لا نفهمها .. ومنا من شارك في تدمير الجنوب وأصبح حاميها حراميها يسرق الأرض ويمارس القتل….وعندما كبرنا أصبح السارق منا يحمل نجوما على بدلته ونياشين على صدره وسلاحا في يده يأمر وينهى وأصبح الجبان قائدا والثعلب يسابق الأسود والفاسد يحكم بين الناس وبائع السوق خبيرا استراتيجيا والقاتل في حماية القانون والضحية يخاف القانون .. الطبيب أصبح تاجرا والتاجر أصبح سياسيا والغبي أستاذا يعلم الأذكياء .
الرأس أصبح ذيلا والمنافق عنوانا للشرف المفقود .. والإرهابي أصبح ثائرا ومصلحا والثائر يتدثر بلحاف التقوى والشرف ،أشعلنا الحروب وصدرنا أذانا وحروبنا وشرورنا إلى أخوتنا وجيراننا أشغلناهم بالفتن وارتهاننا للغير !!
كبرنا وفقدنا براءتنا ودمرنا قيم الخير والصلاح ونمت في نفوسنا هواجس الشياطين وتحولنا إلى لصوص وسماسرة نحتمي بالمليشيات والبلطجية ..نتفرج عليهم وهم ينحرون عدن المدينة الجميلة الحالمة التي تتوسد جبل شمسان وتتمدد على شواطئ بحر العرب .. ويبيعون أراضيها وحتى شوارعها وتاريخها ويمحون ذاكرتها ويدمرون معالمها وهؤلاء لا ينتمون إلى عدن يزورون الوثائق ويتملكون عشرات الأراضي والبيوت بينما آلاف الأسر العدنية بدون مأوى ولا زالوا يحلمون بقطعة ارض في مدينتهم المستباحة للغرباء والدخلاء والأوباش والنكرات!!
الحقيقة المؤلمة والمفجعة أن لدينا قوائم بالأسماء لمئات اللصوص والمتنفذين من الذين نهبوا كل شيء في عدن دون وجه حق حيث بلغ عدد المرافق والمؤسسات الحكومية المنهوبة أكثر من 400 مرفق ومؤسسة .
مليشيات مسلحة تسيطر على عدد من المربعات الأمنية وتستولي على أراضي شاسعة ومنها ممتلكات للدولة وبعضها للمواطنين غاب أهلها بسبب الحرب .أو اغتصبوها عنوة أما م الأشهاد ..وزوروا وثائقها ولم يعترفوا بوثائقها الأصلية في
المنصورة والشيخ عثمان ..ومنطقة صهاريج عدن التاريخية تشهد بناء عشوائيا ومنافسات طاحنة على نهب الأراضي وتحويلها إلى أسواق تجارية .وهناك تشرذم فرخ عشرات المجالس والمنظمات على طول الساحة اليمنية فهناك في صنعاء سلطة الحوثي القهرية وفي الجنوب المجلس الانتقالي والحراك السلمي الجنوبي ومجلس الإنقاذ الوطني في المهره والشرعية التي يتربص في أعطافها حزب الإصلاح ويخرج من عباءته القاعدة وداعش والتنظيمات التكفيرية الأخرى وكذلك بقايا حزب المؤتمر والاشتراكي وغيره من الأحزاب المغمورة الأخرى التي باعت نفسها للشرعية والحوثي معا بالإضافة إلى ذلك كله
لازالت تحكمنا القبلية العمياء ونتخندق ونحتمي بالمناطقية البغيضة ولا زلنا نتجرع الفشل ونبيع الأوهام ونسوق الأحلام لأنفسنا ونلقي آثامنا وأوزارنا على الغير ونحن الذين نطالب باستعادة دولة الجنوب ونحن أول من باع وخان واستباح الوطن ..وساعد على ضياعه ..وكنا نصدق أن سلطة "صالح وحلفاؤه " هم وحدهم من استباح الجنوب وإذ بالأيام تكشف لنا قوائم جديدة بأسماء سماسرة النخاسة وهم من أبناء الجنوب الذين يبيعون ترابه لمن يدفع لهم أكثر من الغرباء يبيعون كل شيء بما في ذلك شرف الإنسان وأرضه وآبار نفطه وحقوله لغير أهله بدريهمات قليلة !! ؟ فكيف نأمنهم على وطن يرخصه أبناؤه وهم يدعون كذبا أنهم حماته ؟!!
وختاما لازلت آمل أن يعود كل من ضلوا الطريق من أبناء الجنوب إلى رشدهم وان يتركوا مهنة النخاسة وبيع تراب الوطن والكف عن المتاجرة بترابه وتقطيع أوصاله بأثمان زهيدة .. احلم بأن ينهض كل حر شريف ونقف معا سدا منيعا في وجه اللصوص والسماسرة ونقول لهم : كفوا عن المتاجرة بأحلام البسطاء وكفوا أيديكم عن بيع الأوطان ..وأخشى أن نصحو بعد فوات الأوان وقد ضاع الوطن من أيدينا كما ضاع من قبل وحينها لا ينفع الندم!!
وإذا كان لي الخيار أو أمنية أخيرة في حياتي أتمنى أن أعود طفلا صغيرا لأستعيد براءتي وأعود ألعب مع رفاقي الذين فقدتهم لنستعيد براءتنا وطفولتنا ونعود إلى فطرتنا بعد أن كبرنا وتحولنا إلى كائنات بشرية همجية باعت نقائها وطهارتها في سوق النخاسة والجريمة وتخلت عن إنسانيتها .. وأعود أصرخ في الوادي مع رفاقي بصوت واحد: ليتنا لم نكبر!!
د.علوي عمر بن فريد