أزراج عمر يكتب:
الجزائر فشلت في تطوير المجتمع
رغم الهزّات الكثيرة التي تعرضت لها الجزائر فإن النظام الجزائري الحاكم لا توجد لديه النية الصادقة لفتح ملف الفشل الذي منيت به البلاد في جميع المجالات منذ الاستقلال إلى يومنا هذا وخاصة في مجالين حيويّين هما: هندسة الإنسان الجديد ضمن بنية العائلة أولا ثم ضمن مفاصل دولة المواطنة، وصنع رأسمال في مجتمع متطور ومؤسس على أرقى تطورات العلوم وثقافة حداثية تتنفس أوكسجين الحوار المنتج للقيمة الأخلاقية المتحضرة.
من الملاحظ أن هذا الفشل البنيوي قد نتج عنه أمر خطير جدا وهو سقوط رهان التنمية الحضارية، وجراء ذلك، ضاعت 57 سنة من الاستقلال في مهب التلاعبات المدعوة خطأ بالسياسية. لاشك أن العصابات المختلفة التي تحكم في أعلى هرم السلطة وفي عمق القاعدة ليست حالة طارئة، وإنما هي عرضا ونتيجة لغياب مشروع تطور المجتمع في العمل السياسي الجزائري الذي يفتقد إلى النظرية وإلى تفعيل الكفاءات القادرة على الإبداع وخوض غمار الابتكار.
ومما يؤسف له هو أن ظاهرة هذا الفشل لم تجد تشخيصا علميا ضمن إطار البحث العلمي الجاد كما أنها بقيت مكدسة حيث لم تعالج لاستئصال ورمها الأمر الذي جعل الجزائر بلدا منتجا للتناقضات ولشتى أنماط العنف المادي والرمزي. في هذا السياق، يتساءل المراقبون السياسيون عن جدوى الانتخابات الرئاسية وغيرها في صنع الوفاق والانسجام في الوقت الذي ينعدم فيه وازع الثقة بين الشعب ومن يطرح كمرشح لهذا المنصب أو ذاك في أجهزة السلطة، ونتيجة لذلك فإن الانتخابات في حد ذاتها لا توفر المناخ الذي يؤسس للإقلاع تجاه تحقيق حد أدنى من خفض الاحتقان الشعبي، والانطلاق أيضا في بناء تطور المجتمع الذي يعتبر الرافعة الأساسية لبناء الدولة العصرية بركيزتي تحديث الإنسان وترسيخ المواطنة.
وفي الواقع فإن الانتقال إلى خوض معركة وطنية حقيقية لتطوير المجتمع لا يمكن أن يحصل في ظل غياب أي تعهد أخلاقي مؤسس للثقة وكذلك في ظل انعدام أي رابط أصيل وقوي يجمع شظايا المجتمع الجزائري الذي يختلط فيه الحابل بالنابل.
وهنا نتساءل: لماذا عجزت السلطات الجزائرية في الماضي وراهنا في ابتكار وصفة، في صورة مشروع أو برنامج وطني متفق عليه بالإجماع النسبي على الأقل، بموجبها يمكن العمل جماعيا من أجل تطوير المجتمع باعتباره مقدمة ضرورية وشرطا مركزيا لبناء دولة حديثة؟ في هذا الخصوص، يرى البعض من الخبراء المتخصصين في التاريخ السياسي الجزائري -ومن بينهم رجل الدولة والمفكر الجزائري مصطفى الأشرف- أن تأجيل هذه القضية أو رفض الخوض فيها من الأساس يمثل حجر عثرة يعقد مسار الانتقال من موروث الواقع الكولونيالي إلى واقع الاستقلال المختلف والمؤسس على الإجماع الوطني والسيادة الشعبية.
لاشك أن هذه المسائل المطروحة ما تزال تؤرق النخب الوطنية المثقفة رغم أقليتها وتهميشها. ولكن نظام الحكم في الجزائر قد أغلق الباب حيث لم يسمح أبدا بتفعيل حوار متعدد الأصوات قصد إيجاد حلول دائمة وجدية للمشكلات والأزمات التي تتخبط فيها الجزائر وذلك على ضوء الطرح الواقعي للأسباب الحقيقية التي أدت وما تزال تؤدي إلى إخفاق السلطات الجزائرية في ممارسة العقلانية السياسية كنهج وكأسلوب بهدف تشييد بنيات تطور المجتمع العصري الذي تنهض عليه في ما بعد أركان الدولة الوطنية المتطورة.
ومن المؤسف حقا أنه كلما ظهر أفق واعد لإنجاز مثل هذا الحوار نجد من يفرض عراقيل تؤدي غالبا إلى إجهاضه مباشرة وهذا ما حصل، مثلا، أثناء وبعد النقاش شبه الوطني لتعديل الميثاق الوطني في ثمانينات القرن العشرين، وأثناء وبعد فتح قمقم الهوية الوطنية سواء في عهدي الرئيسين الشاذلي بن جديد واليامين زروال، أو خلال فترة ما سمي بماراثون المصالحة الوطنية في عهد الرئيس بوتفليقة حيث تعرضت كل هذه المحاولات إلى ضربات الانتقائية حينا والتوفيقية المراوغة حينا آخر وإلى الطعن من الخلف طورا آخر جراء الصراع العنيف على الحكم وهو أمر يتناقض تماما مع قول أحد المفكرين “ما يبدأ كفعل سياسي ينتهي بتجسيد نفسه في خاصية ثقافية”.
وبمعنى آخر، فإن أخطر سقطة لها ارتدادات عنيفة مستمرة في الجمهورية الجزائرية هي الوقوع في لعبة فرض مركزية حكم العسكر على العمق الشعبي الذي هو الفضاء الطبيعي لتشكيل روافع تطوير المجتمع الممهد لتطوير الدولة.
وفي الواقع، فإن هذا السلوك السلبي ليس ناتجا عن مرحلة الاستقلال الشكلي عن فرنسا فقط وإنما له جذور تقبع في شبكة البنيات الثقافية والاجتماعية الموروثة عبر التاريخ، وهكذا فإن مركزية الحكم، واستبعاد المجتمع في الأطراف من صياغته وتنفيذه ومراقبة نشاطاته في جزائر الاستقلال، مشتقة من عدة مرجعيات منها -على سبيل المثال- تأثير النظام الرأسمالي الاستعماري الفرنسي، ومركب النظام الاجتماعي والاقتصادي والثقافي المعروف بهرمية الآغا وباشاغا والقيّاد وبنظام “الخماسة” الزراعي الذي بمقتضاه تم سحق المزارع والعامل تحت أقدام الإقطاعي أو صاحب رأس المال.
ولاشك أن البروفيسورة الجزائرية مغنية الأزرق قد تمكنت من رصد تاريخ نشوء الطبقات في الجزائر ومن الواضح أيضا أن هذا البنيان الاجتماعي غير المتكافئ له تأثير حاسم على إحلال مركزية السلطة والحكم في جزائر ما بعد الاستقلال بين أيدي شريحة أو فئة أو مجموعة ما في المجتمع الذي بقي إلى يومنا هذا فضاء للسلطات تمارس فيه مختلف أنماط تجارب الاحتواء والسيطرة والإقصاء.