فاروق يوسف يكتب:

هكذا هُزمت الثورة التونسية

لقد مر زمن طويل على قيام الشاب التونسي محمد البوعزيزي على إحراق نفسه احتجاجا على الأوضاع المعيشية السيئة.

لا أحد في إمكانه اليوم أن يجيب عن سؤال من نوع “هل كان البوعزيزي مستقلا أم مؤمنا بعقيدة ما؟”

كان ذلك السؤال غير مهم إلى اللحظة التي تحالف فيها راشد الغنوشي مع نبيل القروي. لقد اهتز كل شيء ولم يعد في الإمكان رؤية شيء في مكانه. فتلك نهاية ما كان البوعزيزي أن يقتل نفسه من أجلها.

ما من أحد من أتباع الغنوشي والقروي يمكن أن يقتل نفسه من أجل تونس. يمكنه أن يذهب إلى البرلمان ليهتف، “نموت نموت ويحيا الوطن”. ولأن البوعزيزي لن يكون حاضرا جلسات البرلمان، الذي ترأس جلسته الغنوشي، فإن أحدا لن يتذكره ولن يشكره، كونه قدّم حياته فِدى من أجل أن يتقاسم مصير التونسي رجلان أحدهما تحوم حوله شبهات التشدد والآخر تحوم حوله شبهات الفساد.

الشاب الذي مات حرقا احتجاجا على الفقر لا يملك سوى أن ينصح بثورة ثانية وهي ثورة تختلف عن الأولى، ذلك لأنها ستحرص على إبقاء الآليات، التي يعمل وفقها النظام وتستهدف استبعاد رموزه

لو كان الشاب أبوالقاسم الشابي حاضرا جلسة البرلمان الافتتاحية لما كتب بيته الشعري “إذا الشعب يوما أراد الحياة”، ولحرم التونسيين مدى الحياة من نعمة التغني بالحياة من خلال الشعر. لقد تم تسويق قصيدته باعتبارها صمام أمان. وهو إعلان كاذب عن تحالف بين مزورين.

الشعب التونسي الذي قاده البوعزيزي إلى الثورة لم يكن في حاجة إلى مرشدين سياحيين سبق لهم أن عملوا في دهاليز الظلام من أجل تضليله وخداعه وتزوير إراداته وسرقة أمواله.

لقد ثار الشعب التونسي من أجل حق المواطنة والمساواة والعدالة الاجتماعية. فإذا به اليوم يُقزم ديمقراطيا أمام غول الشريعة المتحالف مع الفساد. ولا حاجة إلى السؤال “مَن يحمي مَن؟” فالاثنان وقد تمكنا من الإمساك بالسلطة صار في إمكانهما أن يفعلا ما
هو غير متوقع بعد أن حط الشعب مثل عصفور ميت على طاولة البرلمان.

ذلك ما ينذر بموت الثورة التونسية. لن يكون الموت هنا رمزيا بل هو موت واقعي يمكن رؤيته بالعين المجردة. وكما أتوقع فإن روح البوعزيزي ستنسحب بطريقة خائفة من سماء تونس.

فالشاب الذي أحرق نفسه من أجل تونس لم يعد يرى تونس، كما حلم بها بل كما تركها. فتونس بعد تحالف حركة النهضة وقلب تونس هي مأوى الفاسدين، الذين يمكن أن يكونوا مصدرا لجنون عقائدي يرعاه الغنوشي وقد صار رئيسا للسلطة التي تشرع القوانين.

لو كان الشاب أبوالقاسم الشابي حاضرا جلسة البرلمان الافتتاحية لما كتب بيته الشعري “إذا الشعب يوما أراد الحياة”، ولحرم التونسيين مدى الحياة من نعمة التغني بالحياة من خلال الشعر

لو أحرق البوعزيزي نفسه بعد أن استلم الغنوشي رئاسة البرلمان لحكم عليه بالذهاب إلى النار. لن يتذكر الغنوشي أن انتحار البوعزيزي حرقا كان السبب في عودته من منفاه اللندني إلى تونس. بالنسبة للغنوشي، كان البوعزيزي كافرا.

لن يلتفت البوعزيزي إلى خطئه. لقد مرت سنوات. غير أن أجيالا من التونسيين ستنظر إليه بعتب. لا أحد يجرؤ على سؤاله “هل كنت غنوشيا أم قرويا؟”، فالثورة التي أشعلها الشاب المحتج قد انتهت أخيرا على مائدة تتقاسمها قوتان لا علاقة لهما بها.

أرى أن الشاب الذي مات حرقا احتجاجا على الفقر لا يملك سوى أن ينصح بثورة ثانية وهي ثورة تختلف عن الأولى، ذلك لأنها ستحرص على إبقاء الآليات، التي يعمل وفقها النظام وتستهدف استبعاد رموزه. وهو أمر سيكون شديد الصعوبة.

لقد تمكنت حركة النهضة من الدولة وصار من الصعب استبعادها هذه المرة. ستفشل بالتأكيد في إدارة الحكم غير أن استبعادها في سياق الآليات الديمقراطية سيكلف كثيرا من الخسائر.

لذلك سيكون الشعب التونسي في حاجة إلى ثورة ثانية تعيد إليه الوعي ويكون البوعزيزي فيها مرتاحا في قبره.