علي الصراف يكتب:

أطول كذبة في التاريخ

منذ نيفيل تشامبرلين، أو منذ مطلع الحرب العالمية الثانية إلى يومنا هذا، حكم المحافظون بريطانيا 12 مرة، بينما لم يحكم العمال إلا 6 مرات. ولو أنك استثنيت اليمين في حزب العمال، فسوف تجد أن يسار هذا الحزب لم تقم له قائمة منذ مايكل فوت الذي لم يحكم من الأساس. حتى أصبح من المألوف ألا تتاح لهذا الحزب الفرصة في السلطة إلا إذا تولى قيادته تاتشري أكثر من مارغريت تاتشر. وهذا ما فعله توني بلير.

لا يعني ذلك أن المجتمع البريطاني يميني ومحافظ إلى هذا الحد. كما لا يعني أنه لم يتغير منذ قرن من الزمان، بل لأن هناك مؤسسة “توجيه” منحت لنفسها الحق في أن يجري تمويلها من المجتمع لكي تمارس غطرستها عليه، وتفرض مفاهيمها الخاصة، وتحتكر الحقيقة.

الخدعة الكبرى هي أن مؤسسة الـ”بي. بي. سي”، تمارس عملها “على أسس الحياد”. وهذه مجرد كذبة. وبالنظر إلى عمر هذه المؤسسة، التي بدأت عملها في 14 نوفمبر عام 1922، فإنها أطول كذبة في التاريخ.

تضم هذه المؤسسة آلاف الموظفين، وتبث بلغات مختلفة، وتمتلك العشرات من محطات الراديو والتلفزيون، ويتابعها نحو 230 مليون إنسان في نحو 100 دولة في العالم، وتبلغ ميزانيتها السنوية 4 مليارات جنيه إسترليني، لأن كل منزل في بريطانيا يدفع ضرائب لصالحها تبلغ 140 جنيها سنويا.

ولقد قامت هذه المؤسسة، بما أنها ممولة شعبيا، على مبدأ الحياد. ولكنها لم ترتكب جريمة أكبر من ذلك أيضا. فحيادها المزعوم كان، بحد ذاته، عملا من أعمال الخيانة والخداع تجاه ملايين الناس.

ولو جاز أن تُختصر قصة “الحياد” تلك، فإنها ذلك السبيل الذي يتيح لكل طرف من أطراف السياسة أن يدلي بقوله على نحو متساو. حتى أن هناك من يحسب الوقت بالثواني للمساحة المتاحة للمتنافسين. ولكن “الحياد” يمكنه أن يوضع في أي سياق. وهذا ما لا يجعله حيادا على الإطلاق.

وهيئة حكام الـ”بي. بي. سي” هي التي تحدد السياقات. كما أنها وحدها التي تملك الحق في تحديد مستوى وطبيعة التغطية. كما أنها وحدها التي تحدد “الرئيسي” من الأخبار، الزاوية التي يؤخذ بها، أو الجانب المرغوب فيه من الحقيقة.

وهذه ليست مجرد تفاصيل مهنية. إنها تفاصيل سياسية وخيارات دون سواها. مما يجعل الحياد مجرد أسطورة.

عندما نشأت قناة “الجزيرة”، بوصفها “فسيلة” من فسائل هذه الأسطورة، باستعارة مجموعة من موظفي الـ”بي. بي. سي”، فقد سعت إلى تكرار النموذج. صحيح أنه تحول إلى مهزلة، إلا أنه نقل حرفيا تقريبا الأسلوب نفسه. ما يستطيع أن يراه المشاهد العربي مثلا هو أن “الجزيرة”، إذا أرادت أن تهاجم السعودية، فإنها تستدعي ضيفا شرسا للهجوم عليها، وآخر ضعيفا للدفاع. وبطبيعة الحال، فإنها تترك لهما “حرية” الكلام، وقد تعطيهما وقتا متساويا أيضا. النتيجة هراء طبعا. ولكنه هراء مقصود بحد ذاته.

فسيلة السلوك غير الأخلاقي هذه إنما أخذت من شجرة الـ”بي. بي. سي”. وقد نجحت لبعض الوقت قبل أن تنكشف المهزلة على سلوك سياسي وقح وقبيح. سوى أن الـ”بي. بي. سي” توظفه لخدمة غايات يمينية من ناحية، وصهيونية من ناحية أخرى. حتى أنها تكاد تكون أكبر مؤسسة إعلامية إسرائيلية في الخارج. وفي الواقع فقد كان يجب تمويلها من الكنيست الإسرائيلي وليس من جيوب البريطانيين. على الأقل لأنها موجودة لتنقذ صورة إسرائيل، وتدافع عنها، مهما ارتكبت من جرائم.

في عام 2009 عندما شنت إسرائيل حربا شعواء ضد قطاع غزة، أسفرت عن مئات القتلى وآلاف الجرحى، توجهت مجموعة مؤلفة من 13 منظمة دولية للإغاثة، بنداء إنساني من أجل إغاثة المواطنين هناك. إلا أن الـ”بي. بي. سي” رفضت إذاعته، زاعمة أن ذلك سوف “يقوّض الحياد الذي يميز تغطياتها”.

الوقوف على الحياد حيال جريمة ضد الإنسانية، ليس حيادا. إنه انحياز بشع. بل إنه شراكة مكشوفة في الجريمة نفسها. تحديد السياقات، صنعة قائمة بذاتها. يمكنك، إذا كنت صحافيا منحازا، أن تضع أي حقيقة في سياق مختلف، فتظهر على عكس ما تقصد.

يكفي، في عالم الصحافة المقروءة، أن تضع صورة تناسب تصورك المنحاز، لكي تقلب معنى القول الذي تحتها. سوف يظل بوسعك أن تزعم أنك محايد، وأنك قمت بنقل وجهة النظر الأخرى، من دون أن تقول عنها أي شيء. ولكنك بالنتيجة قلبت الانطباع عنها.

أكثر من ذلك، فإن مقدارا عاليا من الغطرسة يسمح للـ”بي. بي. سي” بأن تعيد تعريف الخبر كما تشاء. وكل ما تفعله إنما يتم تحت حيادٍ تم وضعه في سياق غير محايد.

هناك برنامج يدعى “فيد باك” يتم بثه على قناة الراديو الرابعة، يتلقى الشكاوى والأسئلة من الناس الذين غالبا ما يحتجون على مستوى وطبيعة التغطيات أو يثيرون شكوكا واعتراضات حولها. وفي العادة يستضيف البرنامج واحدا من كبار محرري الـ”بي. بي. سي” للرد والإجابة. ولكن لم يحصل أن اعترف أي واحد من هؤلاء بأن التغطية لم تكن محايدة، أو أنها أخطأت في مقاربتها للخبر. وكلما ضاقت بأحدهم الحيل، فإن الخيار الأول الذي يلجأ إليه هو إعادة تعريف الخبر، والنظر إلى الحياد بمقدار من التجرد الحسابي، ولكن من دون النظر إلى السياق الذي وُضع فيه.

السياق هو الصنعة الخفية التي لا يمكن لأي أحد أن يراها، ممن انتهوا إلى أن يكونوا ضحية لبرنامج يميني وصهيوني متواصل على امتداد قرن من الزمان، وظل يزعم أن غايته هي “الإخبار والتعليم والترفيه”، بينما هو يقصد التوجيه والتوجيه والتوجيه.

يوم الجمعة 13 ديسمبر 2019 سيظل يوما تاريخيا على أي حال. صحا البريطانيون على ما يشبه المأتم الجماعي. الصمت حلّ في الشوارع. وبدا الاكتئاب والقلق عامَّيْن. فقد فاز بوريس جونسون بأغلبية ساحقة في الانتخابات، ليُبقي حزب المحافظين في السلطة، على أساس من برنامج دجل وخداع ونفاق صريح. وفي المقابل، فقد حصد حزب العمال بقيادة جريمي كوربن هزيمة منكرة.

الحركة الصهيونية كلها نهضت ضد كوربن. ونهضت معها الـ”بي. بي. سي”، لتنتقم من انتقاداته لإسرائيل.

قدم حزب العمال برنامجا للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، يصب مباشرة في صالح ملايين العمال والطلاب والفقراء والطبقة الوسطى، ويضر بمقدار قليل الأثرياء وكبرى الشركات، بنسب ضرائب أعلى من الراهن، ولكن أقل مما فرضته مارغريت تاتشر. فكان المأتم صارخا.

على أسس “الحياد” المخادع، كانت الـ”بي. بي. سي” هي أكبر جهاز دعاية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. لم تفعل شيئا سوى أنها لم تسمح بإذاعة الحقيقة كلها عن التكاليف الاقتصادية الحقيقية لهذا المشروع الكارثي، ولا قدمت على نحو متساو دفاعات الشخصيات الكبرى، بمن فيها حاكم المصرف المركزي، التي رأت أن البلاد تتجه نحو الهاوية.

ولكن الهاوية، التي صار بوسعها أن تهدد وحدة البلاد، أهون بكثير على هذه المؤسسة الصهيونية، من أن يحكم البلاد يساري مثل كوربن يهدد صورة إسرائيل.

وبالأغلبية التي حققها المحافظون، فقد بات بوسع بوريس جونسون أن يمارس مخادعاته وشعبويته الرخيصة لعشر سنوات أخرى، ولو على حطام البيت.

عادة ما يكون هناك فائز وخاسر في كل انتخابات. ولكن الفائز الدائم هو الـ”بي. بي. سي”. إنها البومة التي ستظل تنعق في الخراب الأخلاقي لأطول كذبة في التاريخ.